الحدود الأوروبية: جدران ترامبية ضد اللاجئين

13 سبتمبر 2021
خلال تظاهرة في بولندا تضامناً مع اللاجئين الأفغان (بياتا زورزل/Getty)
+ الخط -

لم تمضِ سوى سنوات قليلة على احتجاج مجتمعات أوروبية على مشروع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لبناء جدار على حدود بلاده مع المكسيك، حتى بات الاتحاد الأوروبي، بدوله الـ27، بعد خروج بريطانيا منه، يعيش اليوم في ما يشبه قلعة خلف الجدران والأسلاك وتقنيات مراقبة إلكترونية على حدوده الخارجية، مع توقعات بأن تزداد عسكرة حراسة تلك الحدود. في مرحلة تدفق اللاجئين الكبير عام 2015، كانت الانتقادات الأوروبية لسياسات رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في ذروتها بسبب سياسات الجدران والأسلاك الشائكة، وبثّ خطاب قومي متشدد ضد هؤلاء الوافدين. التعاطف الشعبي والحزبي الأوروبي مع اللاجئين في ذلك العام، جعل الكثيرين ينتفضون ضد صورة الصحافية المجرية بيترا لازلو، التي حاولت ركل لاجئ وابنته لمنعه من اختراق حدود بلادها. الصورة اليوم مغايرة تماماً، فلا يبدو أن محطات قطارات ستشهد اكتظاظاً بالقادمين والمتعاطفين مع اللاجئين، كما شهدت مدن ألمانيا الجنوبية في 2015، ولا صدى لتحذيرات ممثلة السياسات الخارجية الأوروبية في 2017 فيديريكا موغيريني بألا يخاطر ترامب ببناء الجدار.

المشهد الأوروبي اليوم، من أقصى نقاط جنوب القارة إلى البلطيق شمالاً، يتخذ منحى ترامبياً

المشهد الأوروبي اليوم، من أقصى نقاط جنوب القارة إلى البلطيق شمالاً، يتخذ منحى ترامبياً. فلناحية تبرير صد اللاجئين، ولا سيما مع التخوف اليوم من موجهة لجوء أفغانية، يستحضر الأوروبيون في اجتماعاتهم الرسمية، كما حدث في بروكسل، بداية سبتمبر/ أيلول الحالي، في اجتماع الوزراء المسؤولين عن قضايا الهجرة، مخاوف وقلقاً من تسلل الإرهاب، وهو ما قدمه ترامب من مزاعم لصد "الإرهاب والجريمة" من أميركا اللاتينية، على الرغم من أنه لم يستطع استكمال "جدار الصد".

وفتح الانسحاب الغربي من أفغانستان أخيراً نقاشات أوروبية كانت خاضعة لـ"صقور" سياسة اللجوء في القارة، بحسب وصف موقع "إي يو أوبزرفر" في تغطيته للسجالات التي شهدتها بروكسل حول ما يتوجب فعله مع التقارير التي تقول إنه يصل إلى تركيا يومياً نحو 300 أفغاني عبر إيران، وهدفهم النهائي البر الأوروبي.

وزير خارجية لوكسمبورغ جان أسيلبورن (اجتماعي ديمقراطي)، اقترح على أوروبا، بحسب صحيفة "دي فيلت" الألمانية، التعهد باستقبال 40 إلى 50 ألف لاجئ أفغاني. بيد أن تلك الدعوة لا تحظى بتأييد زملائه من تيار يسار الوسط الأوروبي نفسه، المتجه نحو تشدد واضح والتماهي مع سياسات مستشار النمسا سبستيان كورتز والمجري أوربان. وزير هجرة كوبنهاغن ماتياس تيسفاي، المتقارب حزبه مع صقور التشدد القومي الأوروبي، ذهب بشكل واضح للتعبير عن أنه "لا ينبغي على الناس (اللاجئين/ المهاجرين) القدوم إلى أوروبا، بل يجب أن يبقوا في دول الجوار"، في تعليقه على مسألة قدوم الأفغان.

من ناحيته، اعتبر وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر، في رده على مقترح أسيلبورن، أنه يجب أن ينظر عن كثب إلى مشاكل الاتحاد الأوروبي الكبيرة، مؤكداً على أنه من الأهمية بمكان "أن نتأكد من أن الأشخاص لا يشكلون خطراً أمنياً، فالحديث ليس عن مئات، بل آلاف (وفقاً لمقترح الدولة الصغيرة لوكسمبورغ باستقبال عشرات آلاف الأفغان)".

استحضار مخاوف "التهديد الإرهابي"، ذهب إليه أيضاً وزير داخلية سلوفينيا أليس هوجس، بتحذيره من أن يؤدي تدفق اللاجئين إلى "هجمات إرهابية على الأراضي الأوروبية". ويعيد ذلك الكرة اليوم إلى مربع التشدد الذي نشأ أثناء أزمة اللجوء إلى القارة بين 2014 و2015، ورفض بعض دول شرق ووسط القارة استقبال أعداد من اللاجئين، وهو ما يدفع في نهاية المطاف إلى محاصرة رسمية أوروبية لمقترحات الحفاظ على "النزعة الإنسانية" للاتحاد الأوروبي، بحسب ما يريد أسيلبورن، باستقبال لاجئين أفغان وتجنب وصول "اللاجئين غير النظاميين"، وهو الوصف الذي استخدمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتعبير عن المخاوف الأوروبية، بعدما ناشدت الأمم المتحدة ساسة الغرب الكف عن استخدام "غير الشرعيين" لوصف اللاجئين.

باتت مسارات اللجوء شبه مستحيلة في شكلها الذي شهد تدفق أكثر من مليون إنسان في 2015

الجدار يتوسع

تزامناً مع سجالات النادي الأوروبي، والتشدد بقصد "عدم إشعار الأفغان بأنه يمكنهم القدوم إلى أوروبا بالملايين"، كما ذهب إليه وزير الهجرة اليوناني نوتيس ميتاراشي بقوله، الأسبوع الماضي: "لا يمكننا أن نجعل الأفغان يغادرون بالملايين ليحضروا إلى الاتحاد الأوروبي... وليس عبر اليونان على الإطلاق"، يبدو لافتاً أن سياسة الجدران والأسلاك الشائكة وتقنيات مراقبة الحدود الخارجية للقلعة الأوروبية تتوسّع أكثر، حتى وصلت إلى شواطئ بحر البلطيق.

فمن الجنوب، أنهت اليونان تواً بناء جدار حدودي، لتستكمل آخر بطول 40 كيلومتراً مع تركيا، بنظام مراقبة صارم وباستخدام كاميرات ورادارات حرارية وطائرات بدون طيار، لتجعل العبور من تركيا براً مستحيلاً. وإذا كانت إسبانيا قد أنهت أيضاً تعزيز جدرانها في سبتة ومليلية، وعززت بحريتها لمنع قوارب المهاجرين من الوصول إلى أراضيها، فإنّ إيطاليا وخفر السواحل الأوروبي في وكالة "فرونتيكس" (الوكالة الأوروبية لمراقبة وحماية الحدود الخارجية)، باتوا يصدون الكثير من محاولات اللجوء عبر المتوسط.

صحيح أنّ مسألة الجدران ليست جديدة، وقد انتُهجت بعد 2015 لقطع "مسار البلقان" (اللجوء عبر البلقان)، إلا أنّ مراجعة ما أنجز منها في السنوات الست الأخيرة يعطي انطباعاً واضحاً بأن أوروبا التي ودّعت جدار برلين قبل أكثر من ثلاثة عقود، باتت في الواقع تعيش خلف جدران كثيرة.

رصْد تقارير مؤسسات "بناء الجدران" ومنظمة "معلومات الهجرة"، يعطي صورة عن أن أوروبا بعد 3 عقود من رفع الحواجز والحدود ولاحقاً البدء باتفاق شينغن، باتت عملياً خلف ألف كيلومتر من جدران المراقبة شبه العسكرية، هذا عدا عن تخصيص المليارات لوكالة حراسة الحدود، "فرونتيكس"، واتفاقيات مع تركيا في 2016، أدت أيضاً إلى بناء الأخيرة جدارين على حدودها مع إيران ومع بعض المناطق في الشمال السوري. وعملياً، فإنه في حين لم تكن توجد في عام 1990 نقاط حدود وجدران بين دول الاتحاد الأوروبي، باتت اليوم تلك النقاط الحدودية والأسلاك والجدران تتجاوز 15 نقطة، بانضمام دول البلطيق وبولندا أخيراً لتشييدها.

من أقصى شمال النرويج، على الحدود مع روسيا، وعلى حدود إستونيا مع الأخيرة، مروراً بجدار النمسا مع سلوفينيا، والأخيرة مع كرواتيا، والمجر مع صربيا، وكرواتيا واليونان مع مقدونيا، وتركيا وبلغاريا مع الأخيرة، وإسبانيا مع المغرب، وبريطانيا مع فرنسا في كاليه، وعلى الرغم من محاولات الهروب المستمرة، باتت مسارات اللجوء شبه مستحيلة في شكلها الذي شهد تدفق أكثر من مليون إنسان في 2015.

تخصص أوروبا المليارات لإبقاء اللاجئين بعيداً عن جدرانها

فالإحصاءات تفيد بتراجع كبير في أعداد الواصلين لطلب اللجوء، بدءاً من عام 2016، حتى وصل الرقم إلى نحو 88 ألفاً في 2020، ونحو 60 ألفاً في العام الحالي، 2021. هذا إلى جانب أن البحر الأبيض المتوسط، الذي شكل يوماً مساراً التهم غرقاً آلاف الساعين للهجرة، بات الوضع فيه أكثر تعقيداً وصعوبة، مثلما هو أيضاً الوضع في بحر إيجه الفاصل بين اليونان وشواطئ تركيا، على الباحثين عن طرق وصول إلى البر الأوروبي، مع تكثيف عمليات الحراسة، وإبرام اتفاقيات مع خفر سواحل دول حوضه الجنوبي، منعاً لقوارب التهريب.

وتخصص أوروبا المليارات لإبقاء اللاجئين بعيداً عن جدرانها، إذ ومنذ 5 سنوات، دفعت نحو 6 مليارات يورو للحفاظ على اتفاقها مع أنقرة بشأن منع عبور اللاجئين، على الرغم مما شهدته الحدود البرية مع اليونان في فبراير/ شباط من العام الماضي من محاولات تدفق للاجئين. عدا عن أنه في العام الحالي، وبعدما حذرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين من أن نحو 500 ألف أفغاني ربما في طريقهم إلى أوروبا، خصص الاتحاد نحو 600 مليون يورو لبرنامج شبيه في دول الجوار الأفغاني، وهو ما أكدته نائبة رئيس المفوضية الأوروبية مارغريتيس شيناس، بحديثها عن رغبة أوروبا في تخصيص ما يكفي من الموازنات لعدم استعادة مشهد 2015. وتجدر الإشارة إلى أن وكالة "فرونتيكس" بدأت ميزانيتها في عام 2004 بنحو 60 مليون يورو، واليوم تصل إلى أكثر من نصف مليار، وهو ما يؤشر إلى جدية القلق الأوروبي من تدفقات جديدة.

عسكرة أكبر

تستمر اليونان في بناء جدار بطول 40 كيلومتراً وارتفاع 4 أمتار، ووضع أسلاك شائكة على نهر إيفروس، على حدودها مع تركيا، إلى جانب ما أنجزته من جدار بطول كيلومتر واحد بأحدث تقنيات التتبع والمراقبة. وانضمت بولندا أخيراً إلى دول البلطيق، التي تشحن إليها الدول الإسكندنافية أسلاكاً شائكة لحراسة حدودها مع بيلاروسيا، لبناء جدار عازل لوقف تدفق اللاجئين من هذه الدولة. وباشرت بولندا ببناء جدار بطول 150 كيلومتراً وبارتفاع مترين ونصف المتر على حدودها الشرقية.

توقعات بأن تشهد أوروبا مزيداً من عسكرة حدودها

وبعد انهيار جدار برلين عام 1989، وانتهاج سياسة حدود مفتوحة، عادت مع حرب البلقان وهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وحروب العراق وأفغانستان، فكرة نصب حدود ونشر أسلاك شائكة، بما شكّل مقدمة للحالة المنتشرة اليوم على نطاق واسع. وبالإضافة إلى سياسة بناء الجدران، التي يتجاوز طولها بالمجمل 1200 كيلومتر اليوم، تتعامل أوروبا مع ما يسمى "الحاجز المائي" في المتوسط باستخدام تقنيات مراقبة حديثة للتصدي للقوارب التي تهرّب المهاجرين. ويتوقع خبراء، مثل الباحث في "استراتيجيات الحدود الأوروبية"، الهولندي مارك أكرمان، من مؤسسة "ترانس ناشيونال"، أن تشهد أوروبا "مزيداً من عسكرة حدودها"، بالنظر إلى الأدوار الملقاة على جيوش وعسكريي دول القارة في حماية حدود الاتحاد الأوروبي الخارجية. وفي السياق ذاته، يبدو أن القارة متجهة أكثر نحو ترسيخ مشاريع الحراسة العسكرية بتعزيز وكالة حراسة الحدود "فرونتيكس" بنحو 10 آلاف رجل بحلول 2027، "ما يعني أننا سنشهد المزيد من العسكرة الحدودية في سياق استراتيجية أمنية أوروبية"، وفقاً لأكرمان.

عموماً، فإن وقائع السياسات الأوروبية تفيد اليوم بأنه بينما اعتبرت الحرب على الإرهاب ومنع تهديده ذريعة لغزو أفغانستان، يُستحضر "التهديد الإرهابي المحتمل" لرفض اللاجئين الأفغان، وغيرهم. فالرئاسة السلوفينية الحالية للاتحاد الأوروبي كتبت على موقعها، تزامناً مع السجال الحالي، أنه "من الأهمية بمكان مواصلة ضمان مستوى عال من الأمن في الاتحاد الأوروبي بمتابعة الوضع في أفغانستان عن كثب، حيث من المحتمل أن يؤثر أمنياً على أوروبا، ولا سيما في ما يتعلق بالإرهاب والجريمة المنظمة".

واليوم، حين يستعيد الأوروبيون ما قالته موغيريني لترامب في 2017، عن أنه "ببناء الجدران يخاطر المرء بأن ينتهي سجيناً خلفها"، وأنّ لأوروبا "تاريخاً وتقليداً بالاحتفال بهدم الجدران وبناء الجسور"، ويقارنونه مع تطورات 6 سنوات من سيطرة "صقور" السياسة على سياسات الهجرة واللجوء المتشددة، سيكتشفون بالتأكيد أن الاتحاد الأوروبي يمضي للتحول إلى قلعة حصينة بوجه الفارين من حروب وكوارث وأزمات كان الأوروبيون جزءاً منها. بالتأكيد أيضاً، هناك منطق في كلام الأوروبيين، بمن فيهم معسكر اليسار ويسار الوسط، عن أنه لا يمكن للقارة استقبال الملايين، لكنها، برأي كثيرين من منتقدي سياساتها الخارجية والتعامل مع الأزمات حول العالم، باتت تقترب أكثر نحو التخلي عن مبادئ وقيم كثيرة، حتى في التعاطي مع أسباب اللجوء ومسببيه وطرق علاجه في "دول الجوار"، مع كل ما يستدعيه ذلك من تأثيرات سلبية على واقع دمج مئات آلاف اللاجئين الذين استقبلتهم خلال السنوات الماضية.