يبدو أنّ طرفي الاشتباكات في السودان، الجيش وقوات الدعم السريع، في طريقهما لنقطة توازن الضعف والإنهاك في حرب باتت مفتوحة على كل الاحتمالات.
وفي الأيام الأولى من الحرب التي اندلعت منتصف الشهر الماضي، انفتحت ساحات المعارك لتشمل عشرات النقاط في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى على غرار الفاشر والجنينة ونيالا وزالنجي ومروي والأبيض والنهود وغيرها، كما حرص كل طرف على تعزيز موقفه العسكري، من خلال إرسال قوات من الولايات التي غالباً ما تصطدم بالطرف الآخر عند مداخل الخرطوم.
وفرضت قوات الدعم السريع سيطرة على الأرض بنسبة أكبر من الجيش، وأقامت نقاط ارتكازها في كثير من الشوارع والكباري ومداخل الخرطوم، واستولت على مناطق استراتيجية ومهمة (كما أقر بذلك قادة في الجيش أنفسهم)، مثل السيطرة الجزئية على مطار الخرطوم، وأخرى على مقر قيادة الجيش والقصر الرئاسي بوسط الخرطوم، ومقر الهيئة الحكومية للإذاعة والتلفزيون، عدا عن السيطرة على مصفاة الجيلي شمال الخرطوم، ومركز التحكم في الإمداد الكهربائي جنوب الخرطوم، وأخيراً على منطقتين عسكريتين تتبعان للجيش في الجيلي وقيادة الدفاع الجوي.
وعلى الرغم من ذلك التقدم الملحوظ، لم تجرؤ قوات الدعم السريع على الاستمرار وإكمال سيطرتها على ما تبقى من مواقع، ومن المؤكد أنّ تلك السيطرة في كثير من المواقع لم تحدث نتيجة معارك مباشرة، بل استفادت من تمركز سابق لها قبل الحرب بفترة، إذ بدأت هذه السيطرة منذ حوالي 4 سنوات.
فرضت قوات الدعم السريع سيطرة على الأرض بنسبة أكبر من الجيش، وأقامت نقاط ارتكازها في كثير من الشوارع والكباري ومداخل الخرطوم، واستولت على مناطق استراتيجية ومهمة
في مقابل هذا، ومنذ الأيام الأولى للحرب، تجنب الجيش الدخول في مواجهات برية مع الدعم السريع، معتمداً على سلاح الطيران لإحداث أكبر خسائر لدى الجانب الآخر في آلياته العسكرية وقوته البشرية. وفي الأسبوعين التاليين، حاول الجيش استرداد بعض المواقع، مثل القصر الرئاسي وتحرير مقر قيادته بالكامل، واختراق معابر الخرطوم، لكنه لم ينجز شيئاً من هذا.
أما في مجال الحرب الإعلامية والنفسية في الأيام الأولى من المعركة، فكانت بيانات الطرفين الرسمية تتوالى على مدار الساعة، وكثيراً ما يخرج القادة في حوارات مباشرة مع قنوات التلفزة العالمية، لكن في الآونة الأخيرة بات كل طرف يكتفي ببيان واحد أو اثنين في اليوم، يلخص فيهما نتائج ما دار من معارك على كافة المحاور، واختفت في ذات الوقت نبرة الوعود القاطعة بحسم المعارك في أيام أو أسبوع أو أسبوعين أو أشهر، لأن نتائجها جاءت عكسية.
في هذا السياق، قال الباحث في مجال فضّ النزاعات عباس صالح لـ"العربي الجديد"، إنّ المرحلة الحالية التي وصل إليها الطرفان بعد شهر من القتال هي مرحلة "توازن الضعف" بعينها، والدليل استخدامهم المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي والحرب الإعلامية من قبل الداعمين لتعويض ما يحدث من خسائر على الأرض، مشيراً إلى أنّ قيادة الطرفين لم تستطع الإدلاء بإفادات حقيقية حول الأهداف التي يقاتلون من أجلها، مبيناً أنّ "هذا الوضع سيدفعهما للذهاب باتجاهات التفاوض والتسوية، لأنهما لا يمتلكان نفسا طويلا لهذه الحرب، وليس بمقدورهما الذهاب لحرب طويلة كما حدث في حرب اليمن أو الحرب في ليبيا، خصوصاً في ظلّ هشاشة الحالة المعيشية لدى السودانيين".
تجنب الجيش الدخول في مواجهات برية مع الدعم السريع، معتمداً على سلاح الطيران لإحداث أكبر خسائر لدى الجانب الآخر في آلياته العسكرية وقوته البشرية
وأضاف صالح أنّ "المعطيات الدولية والإقليمية أيضاً لن تسمح بحرب طويلة المدى، بدليل التدخل الأميركي السعودي، لإدراكهما أنّ الإقليم كله يعاني من هشاشة أمنية، مثل جنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى وتشاد، ومن الممكن، في حال طالت الحرب، أنّ ينتقل النزاع إلى هذه البلدان، بسبب وضعية السودان وموقعه الجغرافي".
وجدّد الباحث القول إنّ الجيش وقوات الدعم السريع "ليست لهما استعدادات نفسية ولا مالية لحرب طويلة، وكل ما يقومان به الآن هو محاولات لإبراز قدرتهما للداعمين لهما بالسيطرة على رقع جغرافية ومواقع استراتيجية، لكنهما في النهاية سيصلان لاتفاق طال الزمن أم قصر"، مؤكداً أنّه "لا توجد خيارات أخرى لهما غير التسوية، أو ربما صيغة أخرى لحقن الدماء في الوقت الحالي، خصوصاً أنهما يفقدان قوتهما في العدة والعتاد، على عكس ما يقولانه في الإعلام".
وأشار الباحث في مجال فضّ النزاعات إلى أنّ "معطيات النزاع نفسها قد تتغير، وعلينا ألا ننسى وجود فصائل أخرى مسلحة، مثل الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام مع الحكومة، وأخرى غير موقعة، وبإمكانها في أي لحظة من اللحظات أن تتدخل في النزاع كما حدث في ولاية غرب دارفور في الأسابيع الماضية".
وفيما يرفض رئيس تحرير صحيفة "اليوم التالي" الطاهر ساتي هذه "المقارنة في القوة بين الجيش والدعم السريع، حيث ترجح الكفة لصالح الجيش الذي لا يمكن، حسب تقديره، أن يصل لنقطة ضعف، بدليل أنّه يسيطر اليوم على 17 ولاية، حسم فيها تمرد مليشيا الدعم السريع الذي لم يتبق لها إلا جيوب في 4 محليات في الخرطوم".
وأوضح ساتي لـ"العربي الجديد"، أنّ "الجيش في كل يوم يكسب أراضيَ جديدة ويملك زمام المبادرة بالهجوم، مقابل بقاء الدعم السريع في خانة الدفاع، واستخدامها المدنيين كدروع بشرية"، مضيفاً أنّ "من نقاط قوة الجيش السند الشعبي، إذ يقف خلفه كل الشعب السوداني، عدا فئة قليلة"، بحسب قوله.
ونفى المتحدث "بشدة ما يقال عن نقص في القوة البشرية القتالية لدى الجيش بالمقارنة بالانتشار العددي للدعم السريع"، موضحاً أنّ "الجيش لم يقاتل حتى اللحظة بخمسة بالمائة من قواته، ولم يستخدم كل عتاده وآلياته، بينما يقدَّر عدد قوات الدعم السريع التي خاضت الحرب بنحو 50 ألفا، ولم يبق منها الكثير بعد تعرض أفرادها للموت والأسر والهروب من ساحة المعركة".
ويضيف رئيس تحرير صحيفة "اليوم التالي" أنّ "خطوط إمداد الجيش والتسليح مستمرة بفاعلية، عكس ما يحدث مع قوات الدعم السريع التي فقدت ذلك، وفقدت معه الاتصالات والتنظيم، فلجأت لممارسة النهب والسرقات واحتمت بالمستشفيات والأحياء السكنية، بغرض الضغط على المجتمع ليضغط هو الآخر على الجيش للقبول بالتفاوض".
إلى ذلك، أكد اللواء المتقاعد والخبير العسكري، صلاح عيساوي، أنّ "قوات الدعم السريع لا تضعف بتلك بالسهولة، وخط إمدادها مستمر، وطالما اختلط الحابل بالنابل فإنّ كل المخازن والمستودعات الغذائية مفتوحة، والسيارات العائلية البديلة متاحة، ومخازن الأسلحة والذخائر التي يهرب منها الجيش يمكن السيطرة عليها، عدا الحدود المفتوحة والمطارات الترابية المتوفرة لهبوط أي طيران في أي مكان وزمان".
وأوضح عيساوي لـ"العربي الجديد"، أنّ "الدعم السريع متمسك بأهم مواقعه التي يدخرها عسكرياً وسياسياً، مثل "مخبأ" عبد الفتاح البرهان بهيئة العمليات بالقيادة العامة، وبمقر التلفزيون والإذاعة، ومنطقة الخرطوم العسكرية، وسلاح الإشارة، وحصاره لسلاح المهندسين بأم درمان، والتواجد حول مناطق شمال بحري، وهو ما يعني إمكانية التوجه إلى القاعدة الجوية في وادي سيدنا"، وفق قوله.