الجيش الباكستاني ينشط قرب حدود أفغانستان: العين على القبائل البشتونية

17 اغسطس 2023
أعضاء في "حماية البشتون" في بيشاور، مايو 2018 (Getty)
+ الخط -

تمرّ باكستان بمرحلة حسّاسة وحرجة من تاريخها، حيث تشهد انقساماً سياسياً حاداً، في وقت تزداد الأوضاع المعيشية والأمنية خطورة وانهياراً. بيد أن كل تلك المشاكل قابلة للاحتواء، في رأي الخبراء، إذ تملك باكستان، من وجهة نظرهم، الخبرة الكافية للتعامل مع أزماتها، بحكم الأدوار الرئيسية التي أدتها في المنطقة خلال العقود الأربعة الماضية. لكن الخطر المتفاقم هو الاستياء في أوساط قبائل البشتون، وخشية انقلابها على الرئاسة الباكستانية.

البشتون في زمن "طالبان"

في الماضي، لجأت بعض التنظيمات المسلحة من العرقية البلوشية إلى "الكفاح المسلح"، بغية الانفصال عن باكستان، غير أن مساعيها لم تتكلل بالنجاح لسببين: الأول، أن العرقية البلوشية ليست قوية كفاية ولا تحظى بدعم متواصل، والثاني هو لأن جميع العرقيات الأخرى وقفت إلى جانب المؤسسة العسكرية الباكستانية ضد تلك التنظيمات. في الوقت الحالي، بدأت أصوات الانفصال تتعالى بين قبائل البشتون، الأقوى في المنطقة من ناحية النفوذ والجغرافية، والتي لديها تاريخ طويل من الكفاح المسلّح، تحديداً إبان الغزو السوفييتي ثم الروسي وأخيراً الأميركي لأفغانستان.

ذبيح الله مجاهد: نرفض بشدة مشاركة أي أفغاني في الهجمات داخل باكستان

وعرفت منطقة قبائل البشتون في باكستان تاريخاً طويلاً من الصراعات، ولعل أبرز وأخطر مرحلة مرت بها كانت بعد دخول القوات الأميركية إلى أفغانستان في العام 2001، والتي تحولت معها أرض القبائل إلى موطن للجماعات المسلحة، وعلى رأسها تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان" باكستان، ما جعلها أرضاً للنزاعات، دُمّرت فيها كل قطاعات الحياة.

وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، انضمت باكستان إلى التحالف المناهض للإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، وكانت العضو الفعّال في التحالف، إذ عن طريقها كان يأتي الدعم اللوجستي للقوات الأميركية والأجنبية في أفغانستان، ما أدى إلى سقوط حكومة "طالبان" في العام 2001.

بعد سقوط حكومة "طالبان" الأولى إثر الغزو الأميركي لأفغانستان، بدأت الحركة تعتمد على قبائل شرق وجنوب أفغانستان، كما كان لقبائل البشتون على الجانب الباكستاني نصيب كبير في دعم وتأييد "طالبان" الأفغانية، ما نتج عنه ظهور "طالبان" الباكستانية في العام 2007.

وكانت هذه الحركة تساهم في العمليات ضد القوات الأجنبية في أفغانستان، إلى جانب عملياتها ضد المؤسسة العسكرية الباكستانية، رداً على وقوف الأخيرة إلى جانب الولايات المتحدة، ما أتاح الفرصة أمام المؤسسة العسكرية الباكستانية لكي تُدخل قواتها إلى منطقة القبائل، وتشنّ عمليات واسعة النطاق ضد الجماعات المسلحة، تحديداً "طالبان" الباكستانية، وذلك في العام 2014.

نقلت "طالبان" الباكستانية معسكراتها ورجالها إلى الداخل الأفغاني، مستعينة بـ"طالبان" الأفغانية وقبائل البشتون على الجانب الآخر من الحدود (الأفغانية). حينها، اعتقد صنّاع القرار في باكستان أنهم اصطادوا عصفورين بحجر واحد: حصول إسلام أباد على الدعم الدولي، مالياً ولوجستياً واستراتيجياً، بعد انضمامها إلى التحالف الدولي في مواجهة "طالبان"، ووضع منطقة القبائل تحت السيطرة.

مع مضي الوقت، تمكنت إسلام أباد من تحسين علاقتها بـ"طالبان" الأفغانية بواسطة علماء الدين الباكستانيين، وكانت الحركة بحاجة إلى دعم باكستان في بعض الجوانب، مثل إتاحة الفرصة لها للحوار مع دول العالم، تحديداً أميركا. وبذلك، زعمت إسلام أباد أن "طالبان" الأفغانية أضحت تحت سيطرتها بشكل مباشر، أو غير مباشر (بواسطة المدرسة الدينية حيث إن معظم قادة "طالبان" كانوا من خريجي تلك المدرسة).

لكن بعد وصول الحركة إلى الحكم مجدداً في أفغانستان في أغسطس/آب 2021 انقلبت الأمور تماماً، وبدأت "طالبان" أفغانستان بإظهار "وجهها الحقيقي" (كما يقول المسؤولون الباكستانيون)، إذ أثارت ملفات قديمة مع إسلام أباد، مثل اعتقال المئات من قيادييها على يد القوات وأجهزة الأمن الباكستانية، وتسليمهم إلى القوات الأميركية، فضلاً عن قتل المئات الآخرين، ومساهمة باكستان في الحرب على "طالبان"، بحسب ما أشار إليه الكثير من قياديي الحركة.

البشتون والصراع بين كابول وإسلام أباد

وفي الأسابيع الأخيرة، ازدادت حدة التوتر في العلاقات بين كابول وإسلام أباد، بعدما أعلنت الأخيرة أن لحركة "طالبان" الباكستانية أماكن إيواء ومراكز تخطيط على أرض أفغانستان، وعلى "طالبان" الأفغانية أن تعمل للقضاء عليها.

قيادي في استخبارات "طالبان" أفغانستان: القبائل غير راضية عن أداء إسلام أباد خصوصاً البشتون

بل أكدت إسلام أباد أن مسلحين أفغاناً يشاركون بأعداد كبيرة في الهجمات داخل باكستان، معتبرة ذلك خطراً على أمن واستقرار المنطقة وليس على باكستان فحسب. وأشار إلى ذلك، في الأيام الأخيرة، قائد الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير، ورئيس الوزراء السابق شهباز شريف، ووزير الدفاع السابق خواجه أصف.

"طالبان" أفغانستان ترفض الاتهامات الباكستانية

لكن في المقابل، ترفض "طالبان" الأفغانية الاتهامات الموجهة إليها. وقال المتحدث باسمها ذبيح الله مجاهد، لـ"العربي الجديد": "إننا نرفض بشدة مشاركة أي أفغاني في الهجمات داخل باكستان. لن نسمح بذلك، كما لا نسمح لأي جهة أخرى، سواء كانت حركة طالبان الباكستانية أو غيرها، بأن تتخذ من المناطق الأفغانية مأوى لها، وقد أكدنا ذلك مراراً".

وأضاف: "لكننا نطلب من إسلام أباد أن تعيد النظر في خططها العسكرية. فشل جيش باكستان واستخباراته في التصدي للجماعات المسلحة". وشدّد مجاهد على أن "هناك أراضي شاسعة في باكستان، خصوصاً في منطقة القبائل، خارجة عن سيطرة القوات الباكستانية، وهي تكفي لأن تكون مكان إيواء وتخطيط لأي جماعة مسلحة".


عين البشتون على أفغانستان

من جهته، قال قيادي مهم في استخبارات "طالبان" أفغانستان، رفض الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، إن باكستان تعرف جيداً أنه لا توجد على أرضنا مراكز إيواء وتخطيط لـ"طالبان" الباكستانية.

ولفت إلى أنه قد يكون هناك بعض الأفراد يتنقلون بين حدود الدولتين ولهم صلة بـ"طالبان" باكستان، ولكن ذلك يحصل بحكم الأعراف القبلية والعلاقات بينهما، إذ إن القبائل واحدة على جانبي الحدود. و"ثمة أمر آخر مهم جداً"، بحسب القيادي نفسه، الذي أشار إلى أن "الوضع في باكستان متأزم من كل النواحي، والقبائل غير راضية عن أداء إسلام أباد، خصوصاً قبائل البشتون، والتي عينها على أفغانستان كونها البلد الأم، وأصبحت مستقرة وموحدة ومتماسكة، ولذلك فإن قبائل البشتون المحرومة من كل حقوقها في باكستان، تنظر إلى أفغانستان، وهذا ما تخشاه إسلام أباد".

وأوضح أن "أفغانستان لا تزال تعاني من مشاكل كثيرة، غير أن تجار قبائل البشتون والأثرياء فيها ينقلون أموالهم من باكستان إلى أفغانستان، لأنها آمنة، فلا توجد هناك أعمال اختطاف وقتل، كما أن فرصة العمل لهم فيها مؤاتية". وتابع: "نحن بحكم النظام القبلي، لا نستطيع أن نمنع قبائل باكستان من الدخول إلى أفغانستان والعمل هناك، كما لا نستطيع أن نفرض عليهم إجراءات، مثل جواز السفر والتأشيرة، لأنهم يعتبرون أفغانستان بلدهم الأم".

ولفت القيادي في استخبارات "طالبان" أفغانستان إلى أن حكومة "طالبان" كلما حاولت حلّ مشاكلها مع المجتمع الدولي، يزداد الخوف في باكستان، خصوصاً بالنظر إلى وضع القبائل الحالي. وأضاف أنه "في الآونة الأخيرة، عُقدت مفاوضات بين أميركا ومسؤولين في حكومة طالبان في دولة قطر، وكانت ناجحة جداً، ولكننا رأينا كيف أن قائد الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير وعدداً من المسؤولين الباكستانيين رفعوا أصواتهم، قائلين إن الأفغان يشاركون في الهجمات داخل باكستان، وهذا الأمر غير صحيح إطلاقاً".

"طالبان" باكستان موجودة في أفغانستان

لكن المحلل السياسي الباكستاني عبد الشكور رفض ما يقوله المسؤولون في كابول، معتبراً، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "طالبان" الباكستانية موجودة على أرض أفغانستان، وأن مصلحة البلدين تكمن في القضاء على كل الجماعات المسلحة التي تشكل خطراً على المنطقة.

تلقت المؤسسة العسكرية دعماً كبيراً من الجماعات الدينية والمدارس التابعة لها

وهذا ما أكده الزعيم السياسي والقومي المنتمي إلى قبائل البشتون محمود خان أجكزاي، في خطاب أمام اجتماع قبلي في مدينة بيشاور في 4 الشهر الحالي، مؤكداً أن على باكستان أن تعترف بأن أفغانستان دولة مستقلة ذات سيادة ولا تخضع لسيطرة أي دولة، كما أن على كابول أن تدرك أن أمن باكستان لمصلحتها. وأضاف: "أقول لطالبان إن عدم استقرار باكستان سيكون خطراً على أمن المنطقة بأسرها".

إثارة خط "ديورند"

ومن المواضيع التي أثيرت أخيراً، على المستويين القبلي والاجتماعي، قضية خط ديورند الفاصل بين الدولتين. وكانت حركة "حماية البشتون" في باكستان هي التي أثارت القضية بكل قوة، وكان من هتافاتها المشهورة أن القبائل على طرفي الخط الفاصل بين أفغانستان وباكستان واحدة ولا يمكن الفصل بينها بخط "ديورند" أو أسلاك شائكة أو سياج، داعية القبائل إلى رفض ذلك الخط.

كما عُقدت في الآونة الأخيرة اجتماعات قبلية كبيرة في منطقة باجور ووزيرستان، دعت السلطات الباكستانية إلى إنهاء الإجراءات على الحدود، معتبرة أن خط "ديورند" غير شرعي.

لكن اللافت كان تصريح وزير الدفاع في حكومة "طالبان" الملا يعقوب مجاهد، نجل مؤسس الحركة الملا عمر مجاهد، أثناء مقابلة له مع قناة "طلوع" المحلية في 15 يونيو/حزيران الماضي، التي اعتبر فيها أن أفغانستان لا تعترف بذلك الخط ولا بتلك الحدود، وأن القضية ستثيرها أفغانستان في الوقت المناسب. وأثار التصريح حفيظة الباكستانيين بشكل كبير. وأشار المحلل السياسي الباكستاني صفير الله خان، وهو من سكان قبائل خيبر في شمال غرب باكستان، إلى أن القضية لا تستحق أن توتر العلاقة بين جارتين.

الجيش الباكستاني يلعب على كل المسارات

من جهتها، لم تكتف المؤسسة العسكرية الباكستانية بإجراء عمليات مسلحة ضد المسلحين في منطقة القبائل ومناطق الشمال والجنوب الغربي، بل بدأت أيضاً تتحرك في أكثر من اتجاه، وهي كثفت نشاطها في منطقة القبائل والمناطق المحاذية لها في الأيام الأخيرة، خاصة بعد الهجمات الدموية الأخيرة، مثل هجوم مقاطعة باجور الذي استهدف مؤتمراً لجماعة دينية في 30 يونيو الماضي، وأدى إلى مقتل أكثر من 55 شخصاً، وإصابة العشرات. وتلقت المؤسسة العسكرية دعماً كبيراً من الجماعات الدينية والمدارس التابعة لها، التي انتقدت أيضاً حركة "طالبان" في كابول بعدما كانت داعمة لها بقوة، مطالبة إياها بالعمل ضد "طالبان" باكستان.

وقال زعيم الجماعة الإسلامية سراج الحق، في تصريح في 5 أغسطس/آب الحالي، إنه من غير المناسب أن تتفرج "طالبان" الأفغانية على ما يحدث في باكستان، معتبراً أن عليها أن تعمل بجد حيال ما يحدث في بلادنا. وقال زعيم جمعية علماء الإسلام المولوي فضل الرحمن، أمام اجتماع قبلي في مدينة بيشاور في 4 أغسطس الحالي: "نطلب من طالبان الأفغانية أن تتحرك حيال ما يحدث في بلادنا"، واصفاً من يقومون بأعمال العنف في باكستان بأنهم خونة.

لكن الحركة الدينية، المدعومة من قبل المؤسسة العسكرية، تواجه عقبات كثيرة، أبرزها أن المدرسة الدينية، للمرة الأولى، باتت موزعة حيال ما يحدث. ففي السابق كانت المدارس الدينية تابعة للجماعات الدينية الباكستانية وتؤيد سياساتها، لكن الآن المدارس الدينية في أفغانستان، وبعض المدارس في منطقة القبائل الباكستانية، تؤيد "طالبان" الأفغانية وزعيمها الملا هيبت الله أخوند زاده.

كما أن الزعامة القبلية مرة أخرى تقف في وجه التيار الديني. وقال الزعيم القبلي مير كلام وزير، بعد اجتماع قبلي في بيشاور في 4 أغسطس الحالي، والذي حضره قائد الجيش الجنرال عاصم منير، إن القبائل كلها لا تؤمن بما يقال هنا في هذا الاجتماع، ألم تكن باكستان وهذه الجماعات تؤيد الحرب في أفغانستان؟ كنا نقول إن هذه الحرب التي تقتل الأفغان سترجع إلى باكستان، وهو ما حصل.

وأضاف: "الجيش يقول إن "طالبان" أفغانستان وراء ما يحدث في بلادنا، لكني لا أرى ذلك، إن ما يحصل اليوم في باكستان نتيجة سياسات المؤسسة العسكرية الخاطئة إزاء أفغانستان على مدى الـ40 سنة الماضية.

وقال محسن داور، النائب الباكستاني السابق والقيادي السابق في حركة "حماية البشتون"، في تصريح في 10 الشهر الحالي، إن "على الجماعات الدينية أن توضح موقفها، إنها تؤيد طالبان في أفغانستان وتخالف طالبان في باكستان، إنها تريد الشريعة الإسلامية للأفغان، ولكنها بالنسبة لباكستان، تختار النظام الديمقراطي. كل تلك المواقف ازدواجية لن نقبلها. إذا كانت طالبان أفغانستان على حق، فلماذا لا تكون طالبان باكستان أيضاً على حق؟ القبائل أصبحت يقظة لما يدور في المنطقة ولن نقبل بتلك الازدواجية، إذ إن القبائل على طرفي الحدود هي ضحيتها".