- على الرغم من التحديات والانقسامات الداخلية، خاصة مع ظهور حركات مثل حماس، ظلت المنظمة تحتفظ بموقفها كالممثل الشرعي والوحيد، معتمدة على الشرعية الدولية والشعبية.
- تواجه المنظمة تحديات تتعلق بإعادة بنائها لتكون أكثر شمولية وديمقراطية، مع إمكانية التوصل إلى توافق وطني يعيد لها شرعيتها الشعبية ويحافظ على شرعيتها الدولية.
تأسست منظّمة التحرير الفلسطينية نتيجة قرار مؤتمر القمة العربية عام 1964 في القاهرة، لتمثيل الفلسطينيين أمام الجامعة العربية والمحافل الدولية. كان أحمد الشقيري رئيسها الأول، كما أعادت المنظمة إحياء المجلس الوطني الفلسطيني، الذي انعقد عام 1948 لمرّةٍ واحدةٍ فقط، إذ يعتبر المجلس السلطة التشريعية الممثّلة للشعب الفلسطيني بمختلف أماكن وجوده (فلسطين المحتلة عام 1948، الضفّة الغربية والقدس، وقطاع غزّة، والمخيّمات الفلسطينية والمهجر). بحسب المادة الخامسة من النظام الأساسي لمنظّمة التحرير، ينتخب أعضاء المجلس الوطني عن طريق الاقتراع المباشر من الشعب الفلسطيني، وهذا ما لم يحصل حتّى الآن، إذ عين أعضاء المجلس على أساس المحاصصة بين الفصائل الفلسطينية المنضوية تحت لواء المنظّمة، ما أدى إلى انقلاب الأدوار، لتهيمن اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير على المجلس الوطني، بدلًا من خضوعها لإشرافه، والتزامها بمخرجاته، ليتقزم دوره في المصادقة على قرارات اللجنة التنفيذية إضفاءً للشرعية.
بعد عشرة أعوام من تأسيس المنظمة، في 14 أكتوبر/تشرين الأول عام 1974، اعترفت الجمعية العامة للأمم المتّحدة بالمنظّمة ممثلًا شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني، لكن قبل ذلك ونتيجة تبني المنظّمة لمشروع النقاط العشر (المشروع المرحلي) حصل أول انقسام فيها، في يونيو/حزيران 1974، معلناً ولادة جبهة الرفض (جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الاستسلامية)، بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثاني أكبر فصائل منظّمة التحرير.
تشبثت المنظمة دائماً بأنّها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، آخذةً شرعيتها من اعتراف جامعة الدول العربية، والجمعية العامة للأمم المتّحدة، إضافةً إلى اكتساب الشرعية الشعبية كونها كانت تضم كلّ الفصائل الفلسطينية، في فترةٍ كانت الفصائل تمثّل معظم توجهات الشعب الفلسطيني، إلى أن تشكلت جبهة الرفض؛ التي لم تستمر أكثر من أربع سنواتٍ، لتعود فصائلها بعدها إلى المنظّمة، ثم تأسست حركة حماس، ثم حركة الجهاد الإسلامي، اللتان بقيتا حتّى الآن خارج إطار المنظّمة، وهذا ما جعل من الشرعية الشعبية (الفصائلية) محط شكٍ وتساؤلٍ، إلّا أن كاريزما ياسر عرفات وجماهيريته (رئيس اللجنة التنفيذية للمنظّمة)، رغم انحرافه في أكثر من مناسبةٍ عن خط المنظّمة العام، وصولاً إلى نسفه الميثاق الوطني الفلسطيني، بعد توقيع اتّفاقية أوسلو، قد عوض نقص الشرعية الشعبية.
من الواضح بعد تجاوز حماس لرغبتها في أسلمة المنظمة أن العائق الوحيد لانضمامها إليها الآن هو نسبة تمثيلها فيها، ولا سيّما بعد إصدارها وثيقة 2017
مع رحيل ياسر عرفات عام 2004، رحلت معه الكاريزما الجامعة، ليعود التشكيك في شرعية المنظمة الشعبية مرّةً أخرى، خصوصًا بعد انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006، التي شاركت فيه الجبهتان الشعبية والديمقراطية، إضافةً إلى حركة حماس، حينها حصلت الأخيرة على 74 مقعداً من أصل 132 مقعدًا.
رفضت الفصائل المشاركة في حكومة إسماعيل هنية الأولى، التي قوبلت بحصارٍ إسرائيليٍ وأميركيٍ مشددٍ، إضافةً إلى محاولات محمود عباس ومحمد دحلان إطاحتها، من خلال سحب الكثير من صلاحياتها، وإحداث القلاقل الداخلية طوال عام 2006. لذا ونظرًا إلى رفض الأجهزة الأمنية التعاطي مع الحكومة الجديدة، شكّل وزير الداخلية آنذاك، سعيد صيام، قوةً أخرى تعرف بـ (القوة التنفيذية)، لكن حركة فتح شنت عليها حملةً واسعةً، وصلت إلى حدّ الاصطدام بها رفقة الأجهزة الأمنية الأخرى، وذلك بالتزامن مع حملة اغتيالاتٍ في غزّة.
هذا كلّه؛ إضافةً إلى تاريخ الاقتتال الطويل بين حركتي فتح وحماس؛ الذي تعود بدايته إلى الانتفاضة الأولى، أدى إلى تحول الانقسام الجغرافي المفروض بحكم الأمر الواقع (الاحتلال) إلى انقسامٍ جغرافيٍ سياسيٍ، ما زال مستمراً حتّى الآن، مفرزاً سلطتي أمر واقع في قطاع غزّة والضفّة الغربية، كلّ منها تسعى إلى نفي الأخر.
ثم توالت دعوات إنهاء الانقسام، والوصول إلى جسمٍ سياسيٍ جامعٍ، عن طريق إصلاح منظّمة التحرير، لا بل يردد الكثيرون مقولة "إعادة إحياء منظّمة التحرير". هذه المطالب ملحةٌ في ضوء الظروف التي تعيشها القضية الفلسطينية وشعبها الآن، خصوصاً في مواجهة حرب الإبادة الجماعية، التي يشنها الاحتلال بدعمٍ من الولايات المتّحدة، إضافةً إلى العديد من الدول في العالم، أوروبيةٍ وعربية.
لإعادة بناء منظّمة التحرير لا بدّ من إجماعٍ وطنيٍ شاملٍ لكلّ الفصائل الفلسطينية، ومن ضمنها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، إضافةً إلى الشخصيات الوطنية المستقلة. ولا بدّ من استعادة تمثيل المنظّمة لكلّ شعب فلسطيني، باختلاف أماكن وجوده، سواء في فلسطين المحتلة، أو في الشتات. هذا الطرح يضمن عودة شرعية المنظّمة الشعبية، مع الاحتفاظ بالشرعية المكتسبة دوليًا. إلّا أنّ هذا الطرح يصطدم مباشرةً بأهداف حركتي حماس والجهاد وتوجهاتهما من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى بقيادة السلطة الفلسطينية في رام الله.
غازل ميثاق حركة حماس التأسيسي 1988 منظّمة التحرير بكلماتٍ منمقةٍ، وانتقد علمانيتها بكلماتٍ أخرى، مطالبًا إياها بتبني الإسلام على اعتباره شرطًا للاعتراف بها، والانخراط في صفوفها، "يوم تتبنى منظمة التحرير الفلسطينية الإسلام منهجَ حياة، فنحن جنودها ووقود نارها التي تحرق الأعداء". وكذلك الأمر لحركة الجهاد، التي اعتبر مؤسسها فتحي الشقاقي أن غياب الإسلام عن مشروع المنظمة، هو نقطة ضعف هذا المشروع.
لا معنى لانضمام حركتي الجهاد وحماس إلى منظّمةٍ تتحكم بها سلطةٌ تقدم التنازلات للاحتلال، تنازلاً تلو الآخر
لكن وعلى الرغم من موقف حركتي حماس والجهاد الأوّلي من المنظّمة، إلّا أنّ موقفهما اللاحق قد شهد تحولاتٍ عدّةٍ، تجاهلت في معظمها المطالبة بأسلمة المنظّمة، وبدت هذه التحولات واضحةً منذ عام 1990، من خلال شروط حركة حماس للانضمام إلى المجلس الوطني، ضمن المذكرة التي رفعتها إلى رئيس المجلس الوطني عبد الحميد السائح، إذ اشترطت في حينها اختيار أعضاء المجلس عن طريق الانتخاب لا التعيين، وفي حال تعذر الانتخابات يجب أن يحصل كلّ فصيلٍ على ما يعادل وزنه، وفقًا لذلك قدرت حماس حصتها بين 40-50% من مقاعد المجلس الوطني، وهو شرطٌ تعجيزيٌ كون نسبة حركة فتح 8%، والجبهة الشعبية 4% فقط.
في عام 2017؛ قدمت حركة حماس رؤيتها عن المنظمة، عبر وثيقتها السياسية "منظمة التحرير الفلسطينية إطار وطني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه، مع ضرورة العمل على تطويرها وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية، تضمن مشاركة جميع مكونات الشعب الفلسطيني وقواه، وبما يحافظ على الحقوق الفلسطينية"، نلحظ الاختلاف الواضح بين ميثاق حماس التأسيسي وهذه الوثيقة، التي اشترطت البناء الديمقراطي، إضافةً إلى التمسك بالحقوق الفلسطينية شرطين أساسيين لانضمام الحركة إلى المنظّمة فقط. في حين كانت وثيقة الجهاد الإسلامي عام 2018 مباشرةً أكثر، باشتراطها تصحيح مسار المنظّمة السياسي، والابتعاد عن خط التسوية.
من الواضح بعد تجاوز حماس لرغبتها في أسلمة المنظمة أن العائق الوحيد لانضمامها إليها الآن هو نسبة تمثيلها فيها، ولا سيّما بعد إصدارها وثيقة 2017، التي تتماشى مع قرار مجلس الأمن 242، ومن ثم قبولها بدولةٍ فلسطينيةٍ على حدود عام 1967. رغم ذلك؛ اصطدمت التغيرات الحمساوية، الإيجابية منها أو السلبية، بشروط السلطة الفلسطينية في رام الله وإملاءاتها.
كان الراحل ياسر عرفات متحمساً لانضمام حركة حماس إلى منظمة التحرير، إذ ادعى في مقابلةٍ مع مجلة المصور المصرية بأن لحماس 6 مقاعد في المجلس الوطني الفلسطيني، ومقعدين في المجلس المركزي، وهو ما نفته الحركة في حينه. ثم تراجعت رغبة عرفات في ضم حماس إلى المنظّمة بعد توقيع اتّفاق أوسلو، لا بل استهدفتها الأجهزة الأمنية، وتوعدت بالقضاء عليها عام 1996، من خلال أشرس الحملات الأمنية ضدّها.
على عكس ياسر عرفات، لم تكن لدى محمود عباس أيّ رغبةٍ في ضم حركة حماس إلى المنظّمة، ما دفعه، ويدفعه، إلى فرض شروطٍ عليها، منها قبول الحركة باتّفاقية أوسلو، ونهج التسوية الذي يفرض التخلي عن المقاومة المسلحة، وهي شروطٌ لا تفرض على سائر أعضاء المنظّمة، إذ ترفض جل فصائل المنظّمة الاعتراف بأوسلو، كما ترفض نبذ الكفاح المسلح. إلّا أن هذه الفصائل لم تعد تشكل أيّ تهديدٍ للسلطة الفلسطينية، ولا سيّما أن تمثيلها الشعبي بات ضعيفاً، ولا يحمل أيّ أثرٍ يذكر، كما أن ميزانية المنظّمة تمر عبر السلطة، ما يسمح للأخيرة التحكم في الأولى، ويجعلها مرتهنة لها مالياً، لذلك لا تأخذ هذه الفصائل أيّة مواقف جذريةٍ، إنما مواقف خجولةٍ وأشباه المواقف.
حالة تبعية المنظمة للسلطة ماليًا تنعكس بوضحٍ شديدٍ على عدم التزام السلطة بقرارات المجلس المركزي الفلسطيني، الذي قرر أكثر من مرّةٍ إنهاء التزامات منظّمة التحرير، والسلطة الفلسطينية بالاتّفاقيات مع الاحتلال، وتعليق الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها. إلّا أنّ قرارته لم تنفذ، فبقيت السلطة تعترف بإسرائيل، وتزودها بالمعلومات الضرورية خلال حملات اقتحام مناطق الضفّة الغربية، ومن ضمنها المنطقة "أ"، كما تمارس السلطة ذاتها حملات اعتقالٍ وتنكيلٍ في حقّ الناشطين والمقاومين.
لكن قبل ذلك ونتيجة تبني المنظّمة لمشروع النقاط العشر (المشروع المرحلي) حصل أول انقسام فيها، في يونيو/حزيران 1974، معلناً ولادة جبهة الرفض
لذلك لا معنى لانضمام حركتي الجهاد وحماس إلى منظّمةٍ تتحكم بها سلطةٌ تقدم التنازلات للاحتلال، تنازلاً تلو الآخر، لا بل إنّ ممارسات هذه السلطة تدفع إلى الاستنتاج بأنّ لها دورًا وظيفيًا تجاه الاحتلال، محصورًا بقمع الشعب الفلسطيني، إضافةً إلى دورها الإداري الخدمي. فما أشبه اليوم بالأمس، وما أشبه السلطة الوطنية الفلسطينية بالسلطة الوطنية الهندية (الخاصة بالسكان الأصليين)، التي أوجدها الاحتلال البريطاني في ما يسمى اليوم الولايات المتّحدة الأميركية.
إن إعادة إحياء منظّمة التحرير يبدو الحل الأفضل والأسرع، والمرحلة تتطلب السرعة، كي لا تذهب التضحيات سدىً. إلا أنّ واقع المنظّمة يجعلها تبدو فعلاً ميتة، لذلك هناك رأيٌ آخر يقول " إكرام الميت دفنه"، لكن من غير المقبول دفن الميت من دون إيجاد جسمٍ سياسيٍ جديدٍ.
يمكن ترجمة التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني، خصوصاً في غزّة، لأكبر نصرٍ للقضية الفلسطينية، ولا سيّما بعد عودة القضية إلى الواجهة العالمية، بزخمٍ لم نشهد له مثيلاً منذ النكبة، ذلك في حال تجرأت فصائل منظّمة التحرير، ومن ضمنها حركة فتح، بغض النظر عن انضمام كلٍّ من حركتي حماس والجهاد، أو إحداهما من عدمه، على اتخاذ قراراتٍ جريئةٍ تسحب البساط من تحت أقدام السلطة، مطالبةً إياها بتنفيذ قرارات المجلس المركزي فورًا، وإلا ترفع الشرعية الشعبية والدولية عنها، ويعلن أنها سلطةٌ عميلةٌ للاحتلال، كما يعلن أن كلّ فلسطين تحت الاحتلال. تتطلّب المرحلة الراهنة مثل هذه القرارات، لكن اتخاذها يتطلّب شجاعةً كبيرةً، لأن اصطدام المنظّمة مع السلطة يعني حكماً قطع التمويل عن الأولى، ما يعني انقطاع رواتب الآلاف من موظفيها، كما قد يؤدي إلى اقتتالٍ داخليٍ من جهةٍ، ومواجهةٍ واسعةٍ مع الاحتلال، والقوى الإقليمية والدولية التي تقف خلفه، وخلف السلطة.
في المقابل؛ مطلوبٌ من حماس الخروج من عقليّة المحاصصة، والمطالبة بتمثيلٍ يتجاوز تمثيل الآخرين، الذي قد يؤدي، في حال حدوثه، إلى نتيجةٍ مشابهةٍ للواقع الحالي، لذلك ربّما الأفضل أن يحصل كلّ فصيلٍ على صوتٍ واحدٍ، بغض النظر عن حجمه، ما دام أن ذلك يتم تحت مظلة المشروع الوطني التحرري، الذي يضمن الحقوق الفلسطينية الجمعية منها والفردية، وأيّ مشروعٍ أفضل من المشروع الفلسطيني الأساسي، الذي عادت المطالبة به، مشروع دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة.