الجزائر وهندسة الساحل

19 أكتوبر 2022
الخط البحري التجاري بين الجزائر ونواكشوط مثال على التعاون الأفريقي (فرانس برس)
+ الخط -

صحيح أن حدث اتفاق الفصائل الفلسطينية في الجزائر استقطب الأنظار نهاية الأسبوع الماضي، وغطى على أحداث كثيرة، لكن كان هناك حدث آخر لم يكن أقل أهمية، عُقد في الجزائر، وهو اجتماع قادة جيوش أربع دول من الساحل الأفريقي. قد يكون اختيار التوقيت مناسباً لكي تكون الاضاءة على الاجتماع أقل، بالنظر إلى حساسية مثل هذه اللقاءات ذات الطابع العسكري والأمني، وللأهمية القصوى في تحديد الصورة التي تكون عليها المنطقة على المستوى الأمني.

ولأن المشهد الأمني عامل رئيس ومفصلي في تفعيل عوامل التنمية وتحقيق الاستقرار السكاني وتحسين باقي ظروف العيش والتعليم والصحة، وفتح طرق التجارة البينية، فإن اجتماع قادة جيوش الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا في إطار لجنة الأركان العملياتية المشتركة، وإعادة تفعيلها بعد 12 عاماً من إنشائها، وفي أعقاب انهيار المشروع الفرنسي (مجموعة دول الساحل الخمس)، وفشل عملية برخان، يمكن أن يؤسس لمرحلة جديدة في المنطقة، تأخذ فيها الدول الأربع، زمام أمورها بيدها، ومسؤوليتها في تحديد الخيارات الإقليمية. وعلى هذا النحو تتوضح الاشتراطات الجزائرية التي طُرحت خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر في أغسطس/آب الماضي، وتُفهم مبررات الاجتماع الأمني غير المسبوق بين القيادات السياسية والعسكرية الجزائرية والفرنسية.

يدخل ضمن الخطط التي تستهدفها الجزائر، والتي تم البدء في تطبيقها منذ نهاية عام 2020، الضبط الأمني في منطقة الساحل المتاخم لحدود الجزائر الجنوبية، كشرط ضروري لفتح الممرات التجارية مع دول الطوق الجنوبي، وتحويل المنطقة التي ظلت هاجساً مكلفاً على الصعيد الأمني، بسبب توظيف الجماعات المسلحة، إلى منطقة ذات استحقاقات اقتصادية نافعة للديمغرافيا المحلية، ومتجاوبة مع تطلعات المجتمعات المحلية التي تلاعبت بها فوضى السياسات وانتشار السلاح وتدخّل القوى الأجنبية التقليدية، وفي مقدمتها فرنسا.

هناك الكثير من العوامل التي تعزز الأمل في إمكانية أن تأتي هذه الخطط بنتائج طيبة تنعكس على الاقتصادات المحلية، وتُسهم في تحقيق نسبي للاستقرار وتثبيت السكان، ووقف الكثير من المظاهر الأمنية التي عادة ما تتركز في المناطق الرخوة. من أولى هذه العوامل، الانتباه الجزائري (ولو متأخراً) إلى منطقة الساحل، والعودة اللافتة لتركيز السياسات على دول الجوار في الساحل والصحراء، النيجر ومالي وموريتانيا، بهدف خلق آلية ناجعة للتنسيق الأمني، وفضاء للتعاون الاقتصادي وإطلاق مشاريع مشتركة، على غرار طريق تندوف الجزائرية إلى الزويرات الموريتانية، ومنطقة التجارة الحرة مع مالي والنيجر، ومشروع سكة الحديد إلى هذين البلدين في الأفق المستقبلي.

هناك عاملان آخران متداخلان يشجعان في هذه الظرفية على المضي في إعادة هندسة الأمن والتنمية في المنطقة. أولهما الانسحاب الفرنسي التدريجي من المنطقة، نتيجة للمتغيرات السياسية التي تشهدها هذه الدول، والثاني تزايد الرفض الشعبي وصعود حركة قومية أفريقية مناهضة للوجود الفرنسي في دول الساحل، تعمل الجزائر على تشجيعها لصالح الخيارات المحلية.

بالتأكيد أن الأمر ليس بهذه السهولة، وهو أعقد بكثير بسبب تداخل المصالح وتطلعات قوى كثيرة إلى خيرات المنطقة، وبالنظر إلى ارتباط مصير الطاقة في فرنسا بمناجم اليورانيوم في الساحل، لكن التحوّلات الحاصلة على مستوى النخب العسكرية في منطقة الساحل، والتي تبدي تماهياً مع خيارات الشارع، ستساعد على كنس الهيمنة الفرنسية والعودة إلى الأولويات الأساسية لسكان الساحل... كلما ابتعدت المنطقة عن باريس والوجود الأجنبي، كانت أقرب إلى الاستقرار والتنمية.