الجزائر: مصالحات الجنرالات

27 ديسمبر 2020
تساؤلات حول كواليس التسوية مع خالد نزار (رياض كرامدي/فرانس برس)
+ الخط -

من غير المعروف ما إذا كان هدف المصالحات إعادة ترتيب الجيش والنظام

تساؤلات حول موقف الرئيس عبد المجيد تبون من هذه التطورات

مخاوف من أن يجد الحراك نفسه في حالة حصار تنهي وجوده

لا تزال العودة المفاجئة لوزير الدفاع الجزائري الأسبق، خالد نزار، إلى الجزائر، قبل أسبوعين، على الرغم من ملاحقته من قبل القضاء العسكري في العام 2019، وإدانته في فبراير/شباط الماضي، في قضية التآمر على سلطة الدولة والجيش بـ20 سنة سجناً، تثير الكثير من الجدل، لا سيما بعدما أظهرت صور مسربة أول من أمس أنه عاد إلى الجزائر عبر طائرة رئاسية أُرسلت لتقلّه من إسبانيا، حيث كان يقيم هناك منذ هروبه من البلاد في إبريل/نيسان 2019. وبرزت تساؤلات عمن أصدر قراراً بإرسال الطائرة الرئاسية إلى نزار. وقالت مصادر متطابقة إن قاضي التحقيق في المحكمة العسكرية بالبليدة، قرب العاصمة الجزائرية، استمع إلى نزار عقب عودته مباشرة بعدما سلم نفسه للسلطات بهدف إفراغ هذا القرار من محتواه الإجرائي. ووفقاً لما يقتضيه القانون، يتم إيداع المعني السجن 48 ساعة، ثم تمكين المتهم من تقديم طعن في الحكم الغيابي الصادر في حقه، وإعادة محاكمته أمام المحكمة العسكرية، على أن يكون لقاضي التحقيق حق تقدير إما إيداع المعني السجن المؤقت، أو وضعه في حالة سراح تحت الرقابة القضائية إلى حين إعادة المحاكمة.
وربط العودة، بسلسلة من المراجعات القضائية التي حصلت خلال الأشهر القليلة الماضية، لقضايا وملفات عددٍ من الجنرالات والعسكريين الذين وُضعوا قيد الملاحقة من قبل القضاء، خلال فترة سيطرة قائد الأركان الراحل الفريق أحمد قايد صالح على الحكم، يدفع إلى الحديث عن "تسوية وتفاهمات عسكرية - عسكرية". ولا يُعرف ما إذا كانت هذه التسويات تستهدف "كبح الصراعات" في ظرف داخلي وخارجي حرج، أم إجراء مصالحات داخلية على حساب الحراك والمطلب الديمقراطي. يذكر أن نزار، كان قد عاد في شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي، إلى الجزائر، قادماً من إسبانيا، وذلك بعد عام ونصف من الفرار، بسبب ملاحقته من قبل القضاء العسكري في قضية ما يعرف بـ"اجتماع 30 مارس/آذار 2019"، والذي كان يهدف بحسب القضاء إلى الإطاحة بأحمد قايد صالح، وإنشاء رئاسة انتقالية تحل محل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. ويبدو أن الوقت وحده سيكون كفيلاً بالإجابة عن كثير من الأسئلة، المتعلقة بالتطورات الحاصلة في مستوىً ما من هرم السلطة، وتأثيرها على المستقبل السياسي للبلاد، وتحديداً توضيح ما إذا كان ما يحدث، يدخل ضمن سياق تصحيح أخطاء ارتكبت سابقاً، كما يعتقد البعض، أم أنها جزءٌ من إعادة ترتيب الجيش الجزائري والنظام السياسي بشكل عام وتوازناته الداخلية، تمهيداً لاستحقاقات داخلية وخارجية صعبة.

رسائل تصالح قبل عودة نزار
قبل عودة خالد نزار، كان القضاء الجزائري قد أفرج في شهر يوليو/تموز الماضي عن الجنرال جبار مهنى، بعد تبرئته من تهم فساد كانت وُجّهت إليه. وفي شهر أغسطس/آب الماضي، تمّ الإفراج أيضاً عن الجنرال عبد القادر آيت واعراب، المعروف باسم "حسّان"، والذي شغل في السابق منصب قائد وحدات مكافحة الإرهاب في جهاز الاستخبارات، بعد خمس سنوات من سجنه في قضية ذات بعد أمني. وسبق ذلك، الإفراج في بداية العام الحالي، عن الجنرال حسين بن حديد، الذي كان ملاحقاً بتهمة إضعاف معنويات الجيش وإهانة قائد عسكري. وكان واضحاً أن دعوة قائد أركان الجيش السعيد شنقريحة، للجنرال بن حديد، واستقباله في الاحتفال الرسمي الذي أقامه الجيش بمناسبة عيد استقلال الجزائر في 5 يوليو/تموز الماضي، وتركيز التلفزيون الرسمي على الحديث بين الرجلين، بمثابة رسالة "تصالح" وجّهتها قيادة الجيش للعسكريين الملاحقين قضائياً، تنم عن استعدادها لتسوية ملفاتهم. وتبع ذلك أيضاً إلغاء تهمة التخابر، التي كانت موجهة للجنرال علي غديري، وهو مرشح سابق للرئاسة، يقبع في السجن حالياً، وتعديل تهمة إهانة الجيش من جناية إلى جنحة، تمهيداً للإفراج عنه بحكم مخفف في وقت قريب.

رسالة "تصالح" ضمنية وجّهتها قيادة الجيش للعسكريين الملاحقين قضائياً، تنم عن استعدادها لتسوية ملفاتهم

لكن القضية الأكثر إثارة، والأبرز التي تجري مراجعتها في هذا السياق السياسي، تلك المتعلقة بقضية التآمر على الدولة والجيش، والمتهم فيها قائدا جهاز الاستخبارات السابقان، الفريق محمد مدين (المعروف بالجنرال توفيق) وبشير طرطاق، ووزير الدفاع الأسبق خالد نزار، بالإضافة إلى شقيق الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، السعيد بوتفليقة (بوتفليقة وطرطاق ومدين موقوفون حالياً)، والأمينة العامة لحزب العمال، لويزة حنون، التي أطلق سراحها في فبراير/شباط الماضي، مع الإبقاء عليها قيد المراقبة (تمّت تبرئتها من تهمة التآمر). وكانت المحكمة العليا في الجزائر قد أصدرت قراراً في 18 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بإلغاء أحكام سابقة كان أصدرها القضاء العسكري في حقّ هؤلاء، وتقضي بإنزال عقوبة السجن لمدة 15 عاماً، بحق قائدي جهاز الاستخبارات السابقين، وشقيق الرئيس السابق، و20 سنة حبساً لنزار، وتقررت إعادة المحاكمة قريباً. ولا تشك كلّ الأطراف المراقبة للوضع في الجزائر، أن تسريع القضية يهدف إلى إفراغها من محتواها السياسي، تمهيداً لإخلاء سبيل المتهمين، ضمن سياقات التسوية المطروحة. 

تصحيح لأخطاء؟
واعتبرت القاضية السابقة والناشطة السياسية زبيدة عسول، في مداخلة إذاعية، أخيراً، أنّ كل ما يحدث "هو تصحيح لأخطاء فادحة، وإرجاع الأمور إلى نصابها في قضايا مفبركة، كان ارتكبها قائد الأركان الراحل أحمد قايد صالح، الذي عمل فور إمساكه بزمام الأمور على التخلّص من منافسيه السياسيين والعسكريين، مثل ما فعل مع رئيس الاستخبارات السابق الجنرال توفيق، وطرطاق، ونزار". واعتبرت عسول أن قضية الجنرال خالد نزار، مثلاً، ومنذ انطلاقتها، كانت "تصفية حسابات". لكن بعض المحللين، يضعون التطورات المتسارعة ذات الصلة بإعفاء العسكريين السابقين من الملاحقات والتمهيد لتبرئة والإفراج عن قائدي جهاز الاستخبارات السابقين محمد مدين وبشير طرطاق، في سياق تفاهمات بين مجموعتين من العسكريين: القيادة الحالية للجيش، وما يعرف بـ"مجموعة توفيق" التي كان قائد أركان الجيش الراحل قد زجّ بها في السجون وعرّضها للملاحقات القضائية، واستبعدها تماماً من المشهد.
وفي السياق، يرى الباحث في الشؤون السياسية والأمنية، رضوان منصوري، أنه "طبعاً عندما نقول خالد نزار، فنحن نتحدث عن جماعة نزار، والأكيد أنه إذا حدثت تسوية، فهي تسوية مع جماعة أخرى (أي القيادة الحالية للجيش، وهي عصبة من عصب السلطة)، وذلك لخلق توازنات داخلية". ويعرب منصوري في حديث لـ"العربي الجديد"، عن اعتقاده بأن "السماح بعودة نزار، هو ضمانة لحسن نيّة قيادة الجيش في المضي باتجاه الخيار التصالحي، إذ يبدو أنها لم تستطع حسم تفوقها وسيطرتها على كامل مجالات السلطة الفعلية، إلا بتقديم تنازلات للوصول إلى توازنات مقبولة داخل السلطة تضمن الاستقرار". وبرأيه، فإن ذلك قد يحلّ مشكلة بالنسبة لقيادة الجيش، لكنه يعطي في الوقت نفسه "مؤشراً سلبياً للكتلة الشعبية والسياسية، التي ساندت السلطة في تثبيت المسار الانتخابي، وفي مرحلة تمرير الانتخابات، ويرسل إشارات واضحة، بعدم وجود أي بادرة حسن نية لتغيير طريقة التعامل مع مطالب الشعب". كما يعتبر أنه "يمكن الاعتقاد أن نتيجة التسويات القائمة، ستكون مزيدا من القمع والاعتقال والغلق الإعلامي والتضييق على المسيرات".

ما محل الرئيس من التسوية؟
منذ بدء مؤشرات التسوية بين العسكريين، ومراجعة عدد من القضايا المرتبطة بجنرالات سابقين وإعفائهم من الملاحقات القضائية، بدا بالنسبة للبعض أن الرئيس عبد المجيد تبون (يتواجد منذ أواخر أكتوبر/تشرين الثاني الماضي في ألمانيا بعد إصابته بفيروس كورونا وسفره للعلاج ثم قضاء فترة نقاهة)، غير معني بهذه التسويات. وطُرٍح سؤال في هذه الأثناء عن موقفه، وما إذا كانت هذه التطورات تتم بمعرفة ودعم منه، في سياق تصالحي بين أقطاب السلطة، يستهدف تجنيب مزيد من القلاقل والمشكلات، أم أن قيادة الجيش النافذة تستغل غياب الرئيس تبون ومرضه.
برأي المحلل وأستاذ العلوم السياسية مصطفى خواص، فإنّ "المؤشرات الكثيرة تدل على أن الرئيس تبون لا محل له في هذه التسويات، وهو على هامش التطورات، خصوصاً أن شعبيته تقلصت بشكل بالغ، بسبب ضعف الإنجازات والطريقة التي مرّر بها الدستور". ويعتبر خواص أيضاً، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تبون "يفتقد كذلك إلى حزب قوي أو حام سياسي، وهذا يضعه في موقف ضعف إزاء تطورات في هذا المستوى".

 يعتبر المحلل مصطفى خواص أنّ الرئيس الجزائري  ليس جاهزاً لمواجهة أقطاب داخل السلطة والجيش

ويرى المحلل السياسي أن "قرار إدخال وزير الدفاع الأسبق الجنرال نزار إلى البلاد بهذه الطريقة، لا يخلو من بعض التحدي والتجاوز لقوانين وأحكام الدولة، وهذا ينم أيضاً على الشعور بالقوة الذي يوجد لدى العسكريين".  ووفقاً لخواص، فإن الرئيس الجزائري  "ليس جاهزاً لمواجهة أقطاب داخل السلطة والجيش، وليس من مصلحته الاعتراض على بعض القرارات، إلى حين تثبيت قوته واتصالاته مع رؤساء العالم واكتساب القوة اللازمة". ويوضح أن ذلك "يعود بنا إلى نفس بدايات عبد العزيز بوتفليقة في الحكم، عندما كان يقضي معظم وقته مسافراً لجلب الدعم الخارجي لنفسه بمواجهة المجموعة ذاتها من السلطة". ويذهب خواص إلى الاعتقاد بأن التسويات التي تتم بين العسكريين، سيكون لها أثر مباشر أيضاً على تغيير حكومي محتمل، وداخل بعض المؤسسات، في المرحلة المقبلة.
 
أي انعكاسات على مستقبل الحراك؟
من ضمن الأسئلة المهمة المرتبطة بهذه التطورات والتوازنات الجديدة، ما يتعلق أيضاً بمستقبل الحراك الشعبي ومكوناته، وكيف سيكون مصير الحركة المطلبية الديمقراطية والانتقال السياسي منذ 22 فبراير/شباط 2019. تذهب بعض التحاليل إلى أن الحراك الشعبي، الذي وجد نفسه في جملة من التناقضات والصراعات التي اندلعت بين أقطاب النظام منذ 2015 عقب إزاحة قائد جهاز الاستخبارات حينها الجنرال توفيق، ثم الصراعات التي حدثت منتصف العام 2018، منفذاً للانفلات وكسر قبضة السلطة على الشارع، قد يجد نفسه، أي الحراك، في حالة حصار تنهي وجوده الميداني والسياسي. ويأتي ذلك في ظلّ عودة التفاهمات بين أقطاب السلطة ومجموعاتها النافذة في الجيش ومفاصل الحكم، خصوصاً إذا ما نجحت السلطة السياسية في استيعاب مكونات الحراك داخل مسار الانتخابات النيابية المقبلة.
وفي هذا الإطار، يعرب الناشط السياسي، الأستاذ في جامعة الجزائر، حسين دواجي، في حديث لـ"العربي الجديد"، عن اعتقاده بأن "الحراك انتهى عملياً، وإذا سلمنا جدلاً أن موجة ثانية قد تعود إلى التشكل مع العودة التدريجية إلى الوضع الصحي الطبيعي، فإن أثرها لن يكون قوياً ومؤثراً على سيرورة نظام الحكم، مثل ما حدث مع الموجة الأولى". ويُرجع الناشط السياسي ذلك إلى ما يقول إنها "عوامل واقعية، تتلخص ببساطة في أن النظام الذي أخذه الحراك على حين غرة، وهو في وضع سيئ، وبما أنه نجح في أن يمتص الصدمة الأولى، فإنه الآن يكون قد استوعب الدرس، ولن يسمح بتكرار الذي حدث تحت أي طائلة، وهو ما تثبته الكثير من المؤشرات على الأرض". ومن أبرز تلك المؤشرات، بحسب رأيه، التطورات الجديدة والمتعلقة بالتشكيل الجديد لبنية النظام، أو تلك الخارجية التي تخص الوضع الإقليمي. ويعتبر دواجي أنه "مع التوازنات الجديدة، فإننا قد نشهد استمرار السلطة في السير بخريطة الطريق من دون تراجع عنها، وأكثر من ذلك، قد نشهد حالة انتقامية، وهذا متوقع لأن النواة الصلبة للنظام لن تتسامح مع من كانوا سبباً في ما حدث"، خصوصاً وأن هناك من يُدرج تحول الملاحقات القضائية في الفترة الأخيرة إلى محيط قائد الأركان الراحل أحمد قايد صالح، ضمن سياق الانتقام منه، باعتباره الطرف الرئيس في ما حدث لنزار وتوفيق ومجموعة من العسكريين.
ويكرس كل ما يحدث في الجزائر اليوم حقيقة وجود التأثيرات السياسية والسلطوية على القضاء، سواء في مسارات إدانة أفراد لغايات سياسية، أو تبرئتهم في المقابل. ومن بين الملاحظات الإضافية، أن هذه "التسويات" هي "عسكرية - عسكرية" صرفة، أي أنها لا تشمل الكتلة السياسية من الموظفين الحكوميين ورؤساء الحكومات والوزراء السابقين الملاحقين في قضايا فساد، والذين تركوا لحال مصيرهم، بمن فيهم السعيد بوتفليقة. وليس من باب الصدفة، أن يصدر القضاء المدني، وتحديداً محكمة سيدي محمد، وسط العاصمة الجزائرية، قراراً بإيداع السعيد بوتفليقة السجن المدني، تحسباً لقرار الإخلاء الذي يتوقع أن يصدره في الفترة المقبلة القضاء العسكري (في إطار التسوية السالفة الذكر) في القضية التي تضمه مع كل من محمد مدين وطرطاق (موقوفان في السجن) وخالد نزار.

المساهمون