خلال أسبوع واحد، أشرف قائد الجيش الجزائري الفريق سعيد شنقريحة، على رعاية وإدارة ثلاثة مؤتمرات تصب كلها ضمن سياق ما يُعرف بـ"الحروب التفكيكية الجديدة" والمعارك الافتراضية والسياسية.
وأدارت وزارة الدفاع مؤتمراً حول "الإعلام والذاكرة"، كما نُظّم مؤتمر ثانٍ حول "أبعاد ومخاطر الفضاء السيبراني في التأثير على الوحدة الوطنية"، إضافة إلى الإشراف على مؤتمر دولي ثالث بعنوان "جيوسياسية التطرف، المنطلقات والتهديدات والتحديات وآليات المجابهة".
وأكد قائد الجيش الجزائري خلال المؤتمر الأخير أن "الجزائر انتصرت بفضل مواطنيها وجيشها مؤسساتها على الإرهاب لوحدها، وتمكنت من تطوير تجربة فريدة في مكافحة هذه الآفة والوقاية منها".
ولد الصديق: التطور التكنولوجي والتقني، وكثافة وسائل الإعلام فرضت منطقها على الجيوش
كذلك قال شنقريحة، الإثنين الماضي خلال تنصيبه اللواء محمد الطيب براكني قائداً جديداً للمنطقة العسكرية الثانية في وهران غربي الجزائر: "خرجنا من معركة الإرهاب مؤزرين، وذلك كله ليس إلا سلاحاً في أيدينا، لا بد علينا أن نثمنه ونستعمله بذكاء وفطنة لخوض معركة أخرى لا تقل أهمية من سابقاتها، ألا وهي معركة الحفاظ على هويتنا وإثبات الذات في عالم مضطرب".
وأشار إلى أن الجزائر بصدد "معركة صعبة لأن العدو فيها غير ظاهر، ويستعمل أساليب خفية وخبيثة تستهدف شل إرادة الشعوب وإدامة عوامل تخلّفها، لتسهل السيطرة عليها وتتواصل عملية نهب ثرواتها ومقدراتها، وذلك تحت ذرائع وشعارات زائفة، وبالاستفادة من التطورات الهائلة، التي تشهدها تكنولوجيات الإعلام والاتصال، التي تلاشت معها كل الحدود بين الدول".
دوافع المؤسسة العسكرية لتوسيع مفهوم الأمن
وإذا كان قائد الجيش يبرر هذا التوجّه لبناء استراتيجية أمنية تقوم على توسع مفهوم الأمن القومي، بما يعتبره "تغيراً في مفهوم الأمن والدفاع الوطني"، فإن محاولة المؤسسة العسكرية الانخراط بقوة ووضع يدها على قضايا كانت إلى وقت قريب ذات بُعد سياسي، ومن اختصاص المؤسسات السياسية والأكاديمية، بسبب أنها باتت تعتبرها من مشمولات الأمن القومي، يعزوها مراقبون لأسباب متعددة.
ورأى الباحث المتخصص في الشؤون السياسية والأمنية، ميلود ولد الصديق، أن هناك عوامل كثيرة يمكن أن تفسر تطور اهتمام المؤسسة العسكرية بقضايا أمنية ذات بُعد سياسي وفكري ضمن سياق الحروب الافتراضية الحديثة.
وقال ولد الصديق، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الجيش مؤسسة من المؤسسات الدستورية للدولة، يناط بها الدفاع عن الأمة، وهي بصدد استغلال كل السبل لتحقيق هذا الهدف".
وأضاف: "إذا كانت المراحل السابقة تسترشد بالوسائل التقليدية وتختصر أدوار الجيش في المفهوم التقليدي للأمن (حراسة الحدود البرية والبحرية والجوية)، فإن التطور التكنولوجي والتقني، وكثافة وسائل الإعلام والتواصل التي تغذي مختلف الفئات بالأفكار والتوجهات التي قد يكون مفعولها أخطر حتى من المواجهة المسلحة المباشرة، قد فرضت منطقها على الجيوش وقطاع الأمن عموماً، بضرورات المواكبة وتوسيع الاستشارة لإدراك المفاهيم الشاملة للأمن".
ورأى ولد الصديق أن "خطوة المؤسسة العسكرية في الجزائر نحو الخوض في ملفات جيواستراتيجية، مثل التطرف والأمن السيبراني والإعلام وغيرها، كلها تمثل صميم المخاطر التي تهدد سيادتنا".
واعتبر أن "مواجهة هذه الملفات برؤية الجيش تحتاج إلى تخمير علمي وإشراك النخب حتى تكون على مسافة واحدة من مؤسسة الجيش للاقتران والمواجهة، وهذا يوضح توجّه المؤسسة العسكرية للاشتغال مع المؤسسات المدنية والسياسية في هذا الجانب الفكري". وأضاف أنه "يمكن اعتبار ذلك تطوراً مستحسناً ودليل يقظة استراتيجية، لتكون المؤسسة العسكرية أكثر انفتاحاً على كل ما يتصل بالأمن القومي في كل أبعاده".
وأشار إلى أن "المؤسسة العسكرية تنفذ استراتيجية مدروسة لدمج النخب والاستعانة بها لمجابهة التحديات المختلفة، وبتعبير أكثر دقة لاستغلال هذه القوة الناعمة التي لم تحظَ بالتقدير والإنصات لما يمكن أن تقدّمه من توصيات وحلول ضمن المشكلات الأمنية المعاصرة".
استراتيجية أمنية شاملة بإشراك النخب
وكان قائد الجيش الجزائري قد تحدث في كلمته الإثنين الماضي عن حاجة منظومة الدفاع الوطني لتبني استراتيجية شاملة وإشراك النخب الوطنية، في تحوّل لافت يكشف عن رغبة المؤسسة العسكرية بالانفتاح على النخب الأكاديمية والباحثين في المواضيع ذات الصلة بالمسائل الأمنية والحروب الجديدة، للتعاطي مع مخرجاتها وأفكارها، بعد فترة انغلاق تام وانكفاء على الذات العسكرية خلال العقود الماضية.
وقال شنقريحة "دفاعنا الوطني بمفهومه الموسع، تتطلب إدارته تبني استراتيجية شاملة، تُعنى ببناء وتنسيق استخدام كل القدرات العسكرية وغير العسكرية للأمة، من أجل حماية مصالح بلدنا الحيوية والاستراتيجية".
وتابع: "هذه المقاربة الشاملة يتطلب إعمالها إشراك النخب الوطنية، القادرة على رصد جميع المضامين المسمومة، الإعلامية والثقافية والفكرية، التي تستهدف هويتنا الوطنية وانسجامنا الاجتماعي والشعبي، واقتراح التدابير المضادة التي يجب القيام بها لمواجهة هذه الحملات المكثفة التي تتعرض لها بلادنا".
سيغة: تدرك المؤسسة العسكرية الحاجة لإشراك النخب في مجال الأمن السيبراني والجريمة المعلوماتية
وقال الباحث في الشؤون الأمنية، عضو مركز أفريقيا للدراسات، عمار سيغة، لـ"العربي الجديد"، إن "تصريحات قائد الأركان تعكس بوضوح المفهوم الواسع للأمن، ونضج المدرك الأمني للمؤسسة العسكرية الجزائرية، وانخراطها إلى جانب النخب المهتمة بالدراسات الأمنية".
وتابع: "يمكننا تلمّس ذلك كأكاديميين من خلال المؤتمرات العديدة التي تناقش قضايا ذات صلة بالأمن ومقتضيات الدفاع بمشاركة إطارات من المؤسسات الأمنية والعسكرية"، معتبراً أن "كل ذلك يصب في رافد واحد وهو تكريس عقيدة الكل أمني، إضافة إلى الخبرات التي اكتسبها الجيش الجزائري بفضل الشراكة والتبادل الأجنبي مع دول صديقة ومتعاونة في مجالات الدفاع والأمن العسكري".
ورأى سيغة أن "الانفتاح الكبير للمؤسسة العسكرية على النخب الأكاديمية في الفترة الأخيرة، حدث نتيجة لما باتت تتمتع به المؤسسة العسكرية من كوادر أكاديمية ونخب مؤهلة على مستوى عالٍ من الاحترافية والإمكانيات المادية والتكنولوجية الكبيرة، وهو ما له من الدافع بمكان ليسمو بالمؤسسة العسكرية وينأى بها عن العزلة والتقوقع بما لا يخدم مصالح الدفاع والأمن القومي".
وأشار إلى أن "هذا التوجه يأتي في توقيت مهم وحساس يعكس إدراك المؤسسة العسكرية بحجم المخاطر والتهديدات المحيطة بالجزائر، وحاجة مهندسي الدفاع والأمن إلى إشراك النخب ذات الاهتمام المشترك، لا سيما في مجال الأمن السيبراني والجريمة المعلوماتية وتهديدات الحروب السيبرانية على الأمن والسلم الدوليين، كما يعزز القرار مدى الثقة المكتسبة بين الجيش والنخب المدنية".
لكن تقديرات أخرى، وإن كانت تقر بأهمية انتباه المؤسسة العسكرية لمثل هذه القضايا التي باتت وثيقة الصلة بالأمن والسلم والدفاع الوطني، وبالانفتاح اللافت للجيش على النخب المدنية وإشراكها في بحث الإشكاليات الأمنية والعسكرية، فإنها تسجل في الوقت نفسه أن هذا الانفتاح، يتم بشكل حذر من جهة، وانتقائي من جهة ثانية.
وتتم الاستعانة فقط في هذا المجال، بالخبراء والباحثين والأكاديميين الذين لديهم مواقف إيجابية من المؤسسة العسكرية، وإسناد لخياراتها وتوجهاتها، ويجري توظيف خطابهم لصالح هذه الخيارات وتبريرها بالأساس، فيما يتم استبعاد النخب التي لديها رؤى نقدية إزاء السلطة السياسية والجيش.