خمس سنوات مرّت حتى الآن على اندلاع الحراك الشعبي في الجزائر في 22 فبراير/شباط 2019. مرحلة فارقة في التاريخ السياسي للجزائر، ونصف ثورة هادئة اختارت الانحياز إلى السلمية، لم تكتمل بفعل عوامل عديدة وأسباب متداخلة، لكنها حركة شعبية ستبقى جديرة بالفحص وبحاجة إلى الدراسة المتأنية بعيداً عن الأحكام النمطية، يمكن أن يتأسس عليها أي تصحيح سياسي في المستقبل.
يمكن أن تحدث اختلافات رأي بشأن الظروف التي وجد فيها الحراك الشعبي وفواعله العميقة، وتقييم الخطوط التي اتجه إليها، والعناوين السياسية التي حملها ونتائجه على ضوء نجاح السلطة في احتوائه ومحاصرته، لكنها ستتفق على أن الحراك الشعبي كان نقلة نوعية وغير مسبوقة في حركية الشارع السياسي في الجزائر، وانتقالا عميقا في مستوى سلمية المجتمع الذي يوصف تقليدياً بأنه مجتمع يميل إلى رمزية الغضب والعنف بفعل عوامل تاريخية وتجارب أليمة نحتته على هذا النحو.
ما زالت السلطة تعتقد أن الهوامش السياسية والإعلامية ومساحات النقاش والحركيات المجتمعية التي كانت تشهدها الجزائر قبل عام 2019، على ضيقها الذي كان، هي التي وفّرت عوامل اندلاع الحراك الشعبي، وانفجار الشارع في واحدة من أكبر الصرخات الشعبية التي شهدتها البلاد منذ استقلالها عام 1962. وهو اعتقاد أدى بالسلطة، وفق هذه القراءة، إلى سدّ كل المنابر وإغلاق كل الهوامش، وتجفيف منابع أي تغذية سياسية أو مدنية للمجتمع.
لقد أدت هذه القراءة إلى تصرف السلطة بشكل غير حكيم مع الشارع والصوت المختلف والمخالف والمعارض، المختلف من حيث هويته السياسية والمخالف في الرأي والمعارض من حيث الخيارات السياسية والاقتصادية للسلطة. وأفرز ذلك وضعاً حرم من خلاله المجتمع الجزائري من التواصل الطبيعي مع النخب السياسية والثقافية، ومن الاتصال بالمؤسسات الوسيطة، الأحزاب والنقابات والجمعيات وغيرها من الأطر المنظمة للمجتمع، والتي باتت مُسيّجة بحالة من الرقابة الذاتية والردع السياسي، وأي تحرك لها برصد السلطة، بات محمولا على محاذير التأويل على مصفوفة من القوانين المتشددة ذات الصلة بالفضاء العام.
يظهر بوضوح أن السلطة في عمقها السياسي، انتهت إلى وضع خيار أولوية التنمية على الحرّيات، وهي توظّف في هذا الخيار تعاظم بعض التهديدات المتأتية من الجغرافيا المتوترة في الإقليم، وتستفيد من أخطاء نشطاء لم تنضج تجربتهم السياسية. لذلك تركز بشدة في خطابها السياسي وتوجه كل الأدوات الإعلامية المتوفرة نحو التبشير بالمشروع الاقتصادي والتحول إلى اقتصاديات المعرفة والقيمة المضافة وتثمين المقدرات وإدماج الجامعة والابتكار في سوق العمل، وكل ذلك أمر جيّد لا محالة، لكن السلطة تغفل عن مسألتين بالغتي الأهمية.
الأولى أن مثل هذا الأسلوب سبق تجريبه في الجزائر بنفس الطريقة، وانتهى بالبلاد إلى أزمات متجددة، والثانية أن التنمية لا يمكن أن تسبق الحريات أو تلغيها بالأساس، لأن الحريات لا ترتبط بالمسألة السياسية فحسب، بل لها أيضاً مؤدى اقتصادي من حيث الإمكانية الأكيدة لإسهام النقاشات الحرة في تحديد مكامن الخلل في الخيارات الاقتصادية، ويُمكن أن تساعد في اقتصاد الوقت للوصول إلى ترشيد السياسات العامة والرقابة على الإنفاق وفي ابتكار هندسة أفضل للمشروع الاقتصادي.