تتابع السلطات الجزائرية تطورات المشهد السياسي في مالي، وترصد قيادة الجيش والأجهزة الأمنية التطورات في منطقة شمال مالي تحديداً لكونها متاخمة للحدود الجنوبية للجزائر، وتتحضر للتداعيات على المنطقة بعد إعلان باريس بدء انسحاب منسق من مالي، بعد رفض السلطات الانتقالية في هذه الدولة لتواجدها.
الانسحاب الفرنسي انتصار لطروحات الجزائر
وبقدر ما يشكّل الإعلان عن الانسحاب الفرنسي من مالي انتصاراً للطروحات الجزائرية التي تعتبر تواجد القوات الأجنبية في شمال مالي ومنطقة الساحل، "مجلبة للإرهابيين وعاملاً غير مساعد على تحقيق الاستقرار" لتركيزه على الحل الأمني وإهماله لجوانب التنمية، بقدر ما تثير المخاوف من أن يُحدث الانسحاب حالة فراغ توسّع المجال الجغرافي للجماعات المسلحة والتي قد تستفيد من هشاشة الجيش المالي، إلا إذا كان الانسحاب الفرنسي سيتيح في المقابل إنتاج حل محلي بين أطراف الصراع، في شمال مالي، بعد فشل الحلول الأمنية والتدخلات الأجنبية.
ويعتبر مراقبون أن الانسحاب الفرنسي كان ضرورة ولم يكن خياراً بالنسبة للفرنسيين لاعتبارات عدة، أبرزها الإخفاق في تحقيق منجز ميداني بتحييد الجماعات المسلحة من شمال مالي، وتزايد حالة الكراهية للقوات الفرنسية في المنطقة، والرفض السياسي الرسمي والشعبي الذي يواجهه التواجد الفرنسي في شمال مالي خلال الفترة الأخيرة.
الانسحاب قد يغيّر من مواقف وخيارات بعض المجموعات المسلحة
كما أن هذا الانسحاب قد يغيّر من مواقف وخيارات بعض المجموعات المسلحة. ويدخل في هذا السياق، وجود مقترحات من الجماعات الإرهابية نفسها للقبول بالتفاوض على حل سياسي مع الحكومة المركزية في مالي.
وكانت جماعة "أنصار الإسلام" التي تضم مجموعات موالية لتنظيم "القاعدة"، قد أعلنت قبل أشهر قبولها الحوار مع الحكومة، ووضع السلاح في حال تحقق انسحاب القوات الفرنسية.
ويقود هذه الجماعة القنصل السابق لمالي في جدة، إياد غالي، والذي سبق له أن شارك شخصياً في مفاوضات السلام مع الحكومة المالية في الجزائر والتي أفضت إلى اتفاق للسلام في مايو/أيار 2015.
ويستند الموقف حول احتمال تغيير الانسحاب الفرنسي مواقف وخيارات بعض المجموعات المسلحة، إلى تجربة سابقة في المصالحة مع الجماعات المسلحة التي تقبل وضع السلاح في الجزائر، وهو ما يمكن أن يكون اليوم محل نقاش مجدداً، خصوصاً أن وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب، كان قد أعلن الأربعاء الماضي، أن اتفاق الجزائر بين باماكو وحركات الأزواد (الطوارق) قابل للمراجعة، وقد يتيح ذلك إدخال أطراف أخرى إذا قبلت بقواعد إحلال السلام.
وكانت تنسيقية حركات الأزواد وقعت على اتفاق السلام الذي تم التوصل إليه عقب مفاوضات السلام في الجزائر، في 20 يونيو/حزيران 2015.
الانسحاب الفرنسي والحل المحلي في مالي
في السياق، قال أستاذ العلوم السياسية والباحث في شؤون الأمن في منطقة الساحل، مبروك كاهي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الانسحاب الفرنسي هو نتيجة حتمية للفشل".
وأضاف "فرنسا جاءت لتحارب المجموعات الإرهابية، فإذا بها تعمل على تدريبهم وحمايتهم في كيدال (مدينة في إقليم أزواد شمال مالي) بحسب تصريح مسؤولين ماليين، كما ساهمت في إطلاق العشرات منهم قبل أربع سنوات ضمن صفقة الرهائن المعروفة بصفقة صوفي، والتي استفادت فيها الجماعات المسلحة من أربعة ملايين يورو".
واعتبر كاهي أن "الاعتراف بالفشل وإعلان الانسحاب، قد يكون عاملاً مساعداً على إيجاد الحل، خصوصاً بعد تنامي عامل الثقة بين المجلس الانتقالي والشعب المالي، بمن فيهم سكان شمال مالي، وهو ما قد يسهم في إنتاج حل محلي ويعطي مقاربة محلية تكون أكثر نجاعة".
وتوقع أن "تسير الأمور إلى المنحى الأفضل بتبني مقاربة جديدة، خصوصاً بعد أجواء الثقة الكبيرة التي برزت بين المجلس الانتقالي في مالي والجزائر، وبعد عودة تكفل تجمع دول الميدان (تأسس عام 2010 ويضم الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر) الذي تقوده الجزائر، بتوفير الدعم اللوجيستي لمالي".
وأشار إلى أن "قراءة التطورات في شمال مالي، تفرض في الوقت نفسه، وبعيداً عن العوائق التي كانت تفرضها فرنسا، عدم إغفال مسألة مدى تمكن السلطة الانتقالية في مالي من احتواء الوضع، وقدرتها على التحرك بحرية".
مخاوف جدية في الجزائر حول ما إذا كانت المجموعات الإرهابية ستجد مساحة أكبر للنشاط
مخاوف من تمدد المجموعات الإرهابية شمال مالي
ويشير ذلك بوضوح إلى وجود مخاوف جدية في الجزائر بشأن الوضع الأمني في منطقة شمال مالي بعد انسحاب القوات الفرنسية، وبشأن ما إذا كانت المجموعات الإرهابية ستجد مساحة أكبر للنشاط في منطقة متاخمة للحدود الجنوبية للجزائر، والتي طالما كانت منطلقاً لتنفيذ هجمات ضد الجزائر.
علماً بأن وجود القوات الفرنسية نفسها لم يمنع حدوث ذلك، ومن المتوقع أن تكون السلطات الجزائرية وقيادة الجيش الجزائري وضعت ذلك في الحسابات الأمنية والسياسية، خصوصاً أن انسحاب القوات الأجنبية من المنطقة كان أحد أبرز المطالب الجزائرية، على الرغم من أن الجزائر كانت تبدي تعاوناً نسبياً مع القوات الفرنسية منذ عام 2013، عبر السماح للطائرات العسكرية الفرنسية بالعبور إلى شمال مالي.
كما أن انسحاب القوات الفرنسية بدأت مؤشراته مبكراً، منذ تظاهرات باماكو في يناير/كانون الثاني 2021 المطالبة برحيل القوات الفرنسية، وهو ما يتوقع أن تكون الجزائر قد تحضرت له.
من جهته، قال الباحث في شؤون الأمن ومنطقة الساحل، أستاذ العلوم السياسية بجامعة سعيدة غربي الجزائر، مولود ولد الصديق، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "نظراً لمحدودية المقدرات الأمنية لدولة مالي، فإن حالة اللادولة في شمال مالي، لا سيما بعد توقيف عملية برخان الفرنسية، ستشكل بالفعل بيئة خصبة لإعادة تمركز الجماعات الإرهابية".
واعتبر أن ذلك "يفسر وجود رغبة لدى فرنسا في الضغط على الجزائر للعب دور أكبر في المنطقة من خلال عامل التهديدات الأمنية، وإطلاق شراكة أمنية وبعث قوات للتنسيق في المنطقة".
وأضاف أن "الإصلاحات الدستورية الأخيرة بعد تعديل الدستور الجزائري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، والتي تضمنت السماح بخروج قوات الجيش إلى خارج التراب الوطني في إطار منتظم ثنائي أو إقليمي، ستسمح للجزائر بأن تتجاوز الأدوار التقليدية المتعلقة بعدم التدخل بالدول الأخرى والتزام الحياد، لا سيما أن الفراغ الأمني في شمال مالي يهدد الأمن القومي للجزائر، وهو ما يعني ضرورة لعب الجزائر دوراً مباشراً في تهيئة الاستقرار في مالي، بالتنسيق مع حكام مالي الجدد والذين تتوافق الكثير من خياراتهم المحلية مع المقاربة الجزائرية".
يدفع انسحاب القوات الفرنسية من شمال مالي، إلى تعزيز المقاربة الجزائرية التي تبدي حماسة لإنتاج حل محلي
ويدفع انسحاب القوات الفرنسية من شمال مالي، إلى تعزيز المقاربة الجزائرية التي تبدي حماسة لإنتاج حل محلي يكون أكثر فهماً لمعطيات الواقع في المنطقة، وطبيعة التركيبة الاجتماعية والسياسية في شمال مالي، وإحلال التنسيق بين دول الساحل نفسها وإسناد قدراتها.
وهذا الأمر عبّر عنه بوضوح قائد الجيش الجزائري الفريق سعيد شنقريحة، الثلاثاء الماضي، خلال لقائه رئيس أركان القوات المسلحة الأنغولية، الفريق أول أنطونيو إجيديو دو سوزا سانتوس، في الجزائر.
وقال شنقريحة إن "التجربة المكتسبة في إطار محاربتنا للإرهاب على مر السنين، قد أظهرت أنه لا بلد في منأى عن التهديد الإرهابي، وأن مكافحة هذه الظاهرة لا يمكن أبداً أن تكون مهمة بلد واحد، ولهذا السبب عملت الجزائر بفاعلية من أجل أن تحوز دول المنطقة على القدرات العسكرية والفاعلية العملياتية، اللازمتين في مجال مكافحة الإرهاب".
وأضاف أن "وضع اللااستقرار الذي تشهده منطقة الساحل والصحراء، وكذا تفاقم التهديد الإرهابي وانتشار خطر التنظيمات ذات الصلة، يجب الاعتماد في محاربته على شقين أساسيين هما؛ مكافحة الجماعات المتطرفة في الميدان من جهة، ومحاربة أفكار التطرف ووقاية المجتمعات الأفريقية من الأيديولوجية الخبيثة لهذه الجماعات من جهة أخرى".