دفعت حادثة بلدية مشدالة في منطقة القبائل، شرقي الجزائر، والتي وقعت ليل السبت - الأحد الماضيين على خلفية حفل غنائي أقيم في شهر رمضان (بدأ مطلع إبريل/نيسان الحالي)، وما تبعها من جدل سياسي وشعبي، إلى بروز مخاوف رسمية ومدنية في البلاد، من إثارة جديدة للنعرات العرقية والمشكلات الإثنية، في تهديد جدّي للسلم المدني، وعودة خطاب الكراهية بين المكونات المناطقية، خصوصاً بشأن منطقة القبائل ذات الأغلبية من الأمازيغ. ويأتي ذلك خصوصاً مع تزامن الحادثة الأخيرة في مشدالة مع ذكرى "الربيع الأمازيغي" الذي شهدته المنطقة في إبريل/نيسان 1980.
حفل فني في مشدالة يثير غضب إمام مسجد
وبدأت القضية بعد تنظيم حفل فني من قبل السلطات (مديرية الشباب والرياضة، بالتنسيق مع مديرية الثقافة في المحافظة)، في ساحة مقابلة لمسجد وسط مدينة مشدالة في ولاية البويرة بمنطقة القبائل، ورفض إمام المسجد لذلك، وتوجيهه خطاباً حاداً ضد منظمي الحفل، ما
شنقريحة: أبعاد القضية تصبّ في سياق المؤامرات ضد بلادنا
أثار حفيظة السكان المحليين، لتتفجر بعدها موجة اتهامات ضد سكان منطقة القبائل الأمازيغ، تتهمهم بعدم احترام القيم الدينية.
قائد الجيش الجزائري يحذّر من الفتنة
وصدرت أكثر التحذيرات جدّية، بعد الحادثة، عن رئيس أركان الجيش الجزائري، الفريق السعيد شنقريحة، الذي شدّد على خطورة إثارة النعرات العرقية والإثنية في البلاد. ولفت شنقريحة إلى أن هذه الخطورة "تتعاظم مع استغلال وسائل التواصل الاجتماعي للتلاعب بعواطف الجزائريين ودسّ مزيد من عوامل التفرقة بين مكونات الشعب والتوظيف السلبي لقيم الهوية الجزائرية، والانسياق وراء الإثارة والتهويل الإعلامي، الذي يصاحب بعض الظواهر الاجتماعية السلبية، وما ينجر عنه من جدل عقيم قد يزيد من تجذير التناقضات بين مكونات المجتمع الواحد"، في إشارة واضحة إلى التداعيات الخطيرة لحادثة مشدالة.
وقال شنقريحة خلال لقائه قيادات جهاز الدرك الوطني، مساء أول من أمس الأربعاء، إن هذه "القضية أخذت في الآونة الأخيرة أبعاداً مقلقة، وهو ما نعتبره أمراً خطيراً يهدد السلم الاجتماعي والنظام العام، ويندرج دون أدنى شك في سياق المؤامرات التي تحاك ضد بلادنا، من أجل زرع بذور الفرقة وإدامة مسببات التخلف، وإشغال فئات المجتمع بعضها ببعض، وتفتيت مكوناته، وتفجيره من الداخل، ليسهل التغلغل فيه وتزداد قابليته للتهجين والاحتواء."
وحذّر رئيس أركان الجيش الجزائري من أن "ما يزيد من تعقيد الوضع هو استعمال التكنولوجيا لتوجيه الرأي العام والتلاعب به، عبر نشر كل ما يفرّق ويخلق بلبلة بين مختلف مكونات الشعوب، ما يتطلب تضافر جهود الجميع من أجل وأد الفتنة في المهد". ودعا "أعوان الدولة، وأعضاء المجتمع المدني، والأعيان، وقادة الرأي والنخب، والأئمة، ورجال الدين، إلى توعية الشباب، وأخذ مثل هذه الظواهر على محمل الجد، لكي لا ينتشر لهيبها وتعم الفتنة البلاد". كما دعا إلى "نبذ التصرفات غير المسؤولة التي تهدم ولا تبني، ولا تخدم سوى مصالح أعداء الشعوب الذين يحاولون تحويل أهم عوامل التلاحم والانسجام بين جميع مكونات شعبنا، إلى أسباب للتناحر والفرقة والقطيعة".
خطاب التحريض كان يحظى بالسابق بحماية جهات في السلطة
وبغض النظر عن كون خطاب قائد الجيش يتناول قضية ذات بعد سياسي ليست من صميم صلاحيات الجيش، ويفترض أن تتكفل بها الجهات السياسية والهيئات المعنية، فإن عدداً من المراقبين يعتقد أن تركيز قائد الجيش على مسألة السلم الأهلي والمدني والتحذير من خطاب الكراهية، ينطوي على محاولة استباقية لمنع معضلات داخلية في ظرف تواجه فيه البلاد تحديات حسّاسة اقتصادياً واجتماعياً وإقليمياً. إضافة إلى أن مكان إطلاق قائد الجيش لمثل هذه التصريحات، مقر الدرك الوطني، كجهاز أمني، هو أيضاً إشارة للأجهزة الأمنية بملاحقة كل من يتورطون في إثارة النعرات العرقية والمناطقية وتوظيفها السياسي والأمني.
"نقطة تحول" لخطاب السلطات
ووصف الكاتب السياسي محمد أيونوغان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، خطاب قائد الجيش بأنه "نقطة تحول هامة مرتبطة بموضوع خطاب الكراهية الملاحظ منذ فترة بين المكونات العرقية في الجزائر، خصوصاً ضد منطقة القبائل"، مشيراً إلى أن التحول "مرتبط بكون أن الخطاب كان مدفوعاً في السابق من طرف جهات في السلطة، كانت تسعى لتصفية حساباتها مع منطقة القبائل، بالنظر الى التمرد السياسي المستمر للمنطقة ودورها في الحراك الشعبي منذ 2019".
وأضاف أيونوغان أن "هذا الخطاب (حديث شنقريحة) يشكل منعرجاً حاسماً في هذا الشأن، وإن كان متأخراً، لكنه قد يسهم في ردع خطاب الكراهية". ورأى أن حديث قائد الجيس "يمكن أن يفهم على أنه إدراك جدّي من السلطة لخطورة إثارة النعرات، خصوصاً أن عدداً من الناشطين الذين كانوا يتبنون هذا الخطاب التحريضي ويتهمون جزءاً من سكان المنطقة بدعم حركة الماك (تطالب بانفصال منطقة القبائل وتتمركز قيادتها في فرنسا وصنفتها الجزائر كتنظيم إرهابي)، كانوا يحظون بحماية من جهات في السلطة في وقت سابق، لأن المهم بالنسبة للسلطة كان تقسيم الحراك".