يقع الجزائريون في الوقت الحالي ضمن نطاق اختيارات صعبة وحساسة، التنمية أو الديمقراطية. بالنسبة للسلطة فإن الوضع الداخلي، والتوقيت الدولي بكل أبعاده السياسية وتأثيراته الاقتصادية وامتداداته الإقليمية وضغوط الجغرافيا الأمنية، لا تسمح إلا بخيار واحد.
وقد حسمت موقفها لصالح خيار إعمال التنمية وتغيير معادلات الاقتصاد المحلي. ويشمل ذلك كل ما له علاقة بالمحروقات، وتحسين البنى التحتية ومعالجة المشكلات المعيشية، مع التحشيد لهذا الخيار، على الصعد السياسية والإعلامية والمجتمعية، على حساب قضايا عالقة ومزمنة ذات صلة بالمسألة الديمقراطية.
في الواقع لم تكن السلطة في الجزائر بحاجة إلى إجماع سياسي ضروري لحسم خيارها، لكونها ظلت تمتلك أدوات المرور بقوة إلى خياراتها دائماً. تبني السلطة تصوراتها وانحيازها إلى خيار"التنمية أولاً"، في مقابل تحييد النقاشات والمطالب المرتبطة بالمسألة الديمقراطية، على أساس أن تجارب الانفلات الديمقراطي، كانت سيئة المداخل والمخارج.
في التسعينيات أدى النقاش حول هوية الدولة إلى توترات وأزمة أمنية عنيفة، شكلت تهديداً وجودياً للدولة. وفي زمن الحراك الشعبي، الذي خرج في لحظة حسابات خاطئة للسلطة ومؤسسات الحكم، تكرر الخطأ نفسه واستوطن نقاش عصيب حول هوية المجتمع أفضى إلى انقسام كبير داخل الشارع. ولم تتأخر السلطة بالضرورة في استغلال ذلك لتجفيف منابع الحراك وتجريفه وتجييره لصالحها، واستعادة زمام المبادرة من الشارع السياسي.
لا يمكن التشكيك في انحياز الرئيس عبد المجيد تبون، وبشكل واضح وصريح، إلى نهج الخيارات الوطنية في منوال التنمية الذي يعرضه والديناميكيات التي يعتمدها.
ويشمل ذلك إنشاء نسيج اقتصاد وطني صلب، وقاعدة صناعية محلية، وبعث المصانع المغلقة، وتطوير الزراعة نحو المكننة وحدود ما للاكتفاء الذاتي، وفتح أفق جديد للقطاع السياحي والنقل، وإطلاق المبادرة الفردية الحرة، وإدراج الرقمنة في سلم الأولويات، والتعويل على الاستفادة من الكفاءات العلمية الجزائرية المتواجدة في الخارج. لكن السبل المنتهجة إزاء هذه "الخيارات الوطنية"، تطرح في المقابل سؤالين لا ثالث لهما.
في المقام الأول، هل حصلت هذه الخيارات على صعيد خطط التنفيذ وأدواتها، على ما يكفي من الفحص والتمحيص والنقدية اللازمة، ولانتقاء الكوادر المنفذة لتلافي أخطاء سابقة، ولتجنب التقاء الشعبوية بسوء التدبير، وهي أخطاء حمّلت سابقاً الجزائر الكثير من الكلفة وأهدرت الوقت والفرص، وكانت من حيث ذلك سبباً في انفجارات اجتماعية وسياسية، وقادت إلى أوضاع وجدت فيها الدولة في لحظة خواء وهشاشة؟
وفي المقام الثاني، هل يتعين بالضرورة أن يلتقي تنفيذ هذه "الخيارات الوطنية"، مع فائض الضبط وتسييج كل فضاءات الحريات ومساحات النقاش السياسي والإعلامي، والتضييق على كل الهوامش الممكنة، ووضع الإعلام المحلي داخل رؤية وفكرة وحيدة وخطاب واحد؟
يلتقي السؤالان كلاهما عند نفس النقطة، لا يمكن أن تنجح خيارات "التنمية أولاً"، أو على الأقل بالقدر اللازم لنجاحها، في فك المعضلات الاقتصادية للبلاد، وقد سبق تجريبها في الجزائر في عقود تشكل الدولة الوطنية، خارج مشروع يأخذ بعين الاعتبار استحقاق الحريات كقيمة وممارسة بالنسبة للجزائريين. هناك حاجة أيضاً إلى النطاق الضروري الذي يحترم تنوع الأفكار في الجزائر.
لا يمكن الجزم بنجاح هذه الخيارات من دون نقاش صريح وشفاف وبنّاء حول محتواها الاقتصادي والسياسي وأدواتها. وفي المقابل لا يمكن أن تتوفر هذه النقاشات الضرورية ما لم يتسع صدر السلطة وتنفتح لها الفضاءات الضرورية والمساحات اللازمة. لم يعد ممكناً الفصل بين مشروع التنمية والمسألة الديمقراطية، لئلا تتكرر المآلات نفسها بعد حين.