يستغرب الأكاديمي عبد الوهاب الكيالي، في كتابه "تاريخ فلسطين الحديث"، من إغفال ذكر تنظيم "الكف الأخضر"، الذي نشط في الفترة الممتدة بين (1929- 1930)، على يد الغالبية الكبرى من مؤرخي الحركة الوطنية الفلسطينية. هذا التجاهل واضحٌ في كتابات المؤرخين عند التعرض لتوثيق الحركة الوطنية الفلسطينية، في حين اكتفى أكرم زعيتر، في كتابه "بواكير النضال" بذكر شيءٍ بسيطٍ عن رئيس التنظيم أحمد طافش. دفع هذا التجاهل الكيالي إلى الاستعانة بالتقرير الخاص للمندوب السامي البريطاني؛ ج. تشانسلور، عن هذا التنظيم الموجه إلى حكومته في لندن.
بينما كان يهيمن على فلسطين بكاملها مزاجٌ ثوريٌ معادٍ للاحتلال البريطاني، كان بعض الوجهاء العرب يحاولون منع الاصطدام المباشر مع بريطانيا، والاقتصار على مناهضتها سياسيًا، وقد ذكرت مصادر الشرطة البريطانية في سبتمبر/أيلول 1929: "إن شكيب وهاب؛ القائد الثوري السوري، عرض خلال حديثٍ أجراه مع المفتي، أمين الحسيني، تنظيم مجموعاتٍ، للقيام بحملةٍ ثوريةٍ يمكن أن تستمر ما لا يقل عن عامٍ واحدٍ، ولكن المفتي قال إنه لا يعتبر ذلك ضروريًا في الوقت الحاضر".
وعندما سَأَلَ أكرم زعيتر المعتقل أحمد طافش عن أحواله أجابه: "عليكم بأولادي وبناتي واتركوني بعد ذلك في سجني وليفعل الله ما يشاء"
بحثت فكرة تكوين تنظيمات مسلحةٍ لمحاربة البريطانيين والصهيونيين منذ صيف عام 1929، لكنها لم تكتمل إلا على أثر هبة أغسطس/آب 1929؛ ثورة البراق، حين اشترك بعض الشباب؛ بلغ عددهم نحو 27 شابًا، ثم بعد انتهائها اضطروا إلى الالتجاء إلى التلال المحاذية للحدود السورية.
كان ظهور تنظيمٍ يشن الهجوم على جيش وشرطة الاحتلال البريطاني بالإضافة إلى المستعمرين الصهيونيين أمرًا جديدًا، وذا دلالةٍ خاصةٍ على حدٍ سواء.
أحمد طافش؛ العربي الدرزي من سكان قرية قدس المهجرة، التي تقع في الجليل الشرقي شمال صفد، وهو فلاحٌ تعود أصوله إلى بيت أبي شقرا في لبنان، وسكنت عائلته في قدس والرامة وبيت جن، تمكن في أكتوبر/تشرين الأول من تنظيم مجموعةٍ من الثوار باسم "الكف الأخضر"، لتعمل في صفد وعكا وسمخ. وفي نفس الشهر دشن هذا التنظيم عملياته الثورية عبر شن هجومٍ على الحي اليهودي في صفد.
يقول عبد الحميد محمود أبو النصر، في كتابه "ثـــورة الكــف الأخضــــر 1929"، عن مؤسس تنظيم "الكف الأخضر" ما يلي: "إن مؤسس عصابة الكف الأخضر، هو القائد المناضل أحمد طافش، ثوري فلسطيني ينتمي إلى الطائفة الدرزية في صفد، تلك المدينة التي نشأ وعاش فيها في إحدى الحارات، التي تسمى حارة الوطاة التابعة لها، وأطلقوا عليه أهالي صفد اسم شيخ الشباب، أي كبير شبان صفد، بسبب قوة شخصيته، وحبهم واحترامهم لهذا القائد، الذي تأثر بالأفكار الثورية لقادة فلسطينيين وسورين وعرب"، وفي سياقٍ آخر ذكر أنه شابٌ درزيٌ من قرية (بيت جالا)، وأصله لبناني.
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، تعززت بنية تنظيم "الكف الأخضر" بانضمام عددٍ من الثوريين الدروز، الذين حاربوا الفرنسيين إبان الثورة السورية عام 1925 وبعدها، والذين سرعان ما أصبحوا عموده الموسع، حينها شن التنظيم هجومًا ثانيًا على الحي اليهودي في صفد في 15 نوفمبر/تشرين الثاني. ثم طور تنظيم "الكف الأخضر" من عملياته، فراح ينصب الكمائن لدوريات الشرطة والجيش البريطانيين في قضاء عكا، الأمر الذي حَمَلَ إدارة الاحتلال البريطاني على إرسال تعزيزاتٍ من الشرطة البريطانية والفلسطينية إلى المنطقة.
غير أنه بحلول ديسمبر/كانون الأول 1929، كان ظهور تعزيزاتٍ كبيرةٍ من جيش الاحتلال البريطاني قد جعل السلطات قادرةً على مكافحة الثوار، وقدم الفرنسيون من ناحيتهم مساعدةً قيمةً، من خلال تسيير دورياتٍ كبيرةٍ من قواتهم على الجانب السوري من الحدود. وكانت الحكومة البريطانية قد قدمت شكرها إلى الحكومة الفرنسية في أوائل سبتمبر/أيلول 1929 على "التدابير العسكرية التي اتخذتها على حدود فلسطين لمنع العصابات من اجتيازها".
بينما كان يهيمن على فلسطين بكاملها مزاجٌ ثوريٌ معادٍ للاحتلال البريطاني، كان بعض الوجهاء العرب يحاولون منع الاصطدام المباشر مع بريطانيا
برهن تنظيم "الكف الأخضر" على قدرته على الحركة والمنارة، لأنه كان يعمل في منطقةٍ كان فيها كثير من القرويين المتعاطفين معه. بيد أن الافتقار إلى التنسيق والتعاون بين تنظيم "الكف الأخضر" من جهة، والقيادة السياسية الفلسطينية من جهة ثانية، جعل إمكانيات اتساع المقاومة المسلحة وامتدادها إلى مناطق أخرى؛ ولا سيما منطقة نابلس، أمرًا متعذرًا.
هكذا فإن العمليات العسكرية المشتركة؛ التي شنت ضد تنظيم "الكف الأخضر"، خلال الشهرين الأولين من عام 1930، قد سببت انهياره مؤقتًا، وفي اعتقال 16 شخصًا من أفراده الأصليين المؤسسين. ثم في 22 فبراير/شباط 1930 كتب تشانسلور تقريرًا ذكر فيه أن تنظيم "الكف الأخضر" قد عاد إلى التجمع من جديد، لذا فإن مزيدًا من عمليات القمع العسكرية قد أخذت توجه الآن ضد بقايا الثوار.
كان حلول فصل الصيف لعام 1930، وإلقاء القبض على زعيم تنظيم "الكف الأخضر"؛ في شرقي الأردن، ثم الجهود المشتركة للشرطة والجيش، وفشل بناء التنظيمات المسلحة في أجزاء أخرى من البلد؛ نظرًا لعدم تجاوب القيادة السياسة مع فكرة المقاومة المسلحة، من بعض الأسباب التي يحتمل أن تكون قد أدت في نهاية المطاف إلى فشل تنظيم "الكف الأخضر".
زار أكرم زعيتر في تاريخ 10/2/1932 أحمد طافش وثوارًا آخرين، في سجن عكا، بعد أن سلمته حكومة الأردن إلى حكومة الانتداب البريطاني، وقال عن تلك الزيارة: "لقد خمدت عاطفة البذل، وهناك العشرات من الشيوخ في جلال شيبهم، وعشرات من الشبان في ريعان الصبا ورونق العمر، لا يزالون يقبعون في السجن، وإنهم جديرون بإكبار الأمة وإجلالها، لأنهم عنصر بقائها وسر وجودها وغذاء كفاحها، يجب علينا مطالبة السلطة بإلحاح وحزم بتمييز السجناء السياسيين عن العاديين من النشالين وقطاع الطرق، لأن هناك فرقًا بين سجين العقيدة والمجرم، كما يجب على الأمة أن تتعهد بإعالة عائلات المحتاجين من سجنائها السياسيين".
وعندما سَأَلَ أكرم زعيتر المعتقل أحمد طافش عن أحواله أجابه: "عليكم بأولادي وبناتي واتركوني بعد ذلك في سجني وليفعل الله ما يشاء".
كتب أكرم زعيتر يوم 24/4/1934 ما يلي: "وأخيراً حكمت محكمة الجنايات في حيفا على السيد أحمد طافش؛ الذي سلمته حكومة شرق الأردن إلى البريطانيين، بالسجن 15 سنة". ولم يُعرف مصيره بعد اعتقاله، فالمعلومات عنه ضئيلةٌ جدًا.