كشفت نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية في كازاخستان، الذي جرى أول من أمس الأحد، عن دعم كبير لخطوات الرئيس قاسم جومارت توكاييف في التخلص من إرث سلفه نورسلطان نزارباييف، والانطلاق نحو عقد جديد بين السلطة والشعب بعد عقود من الحكم الفردي الذي أرساه نزارباييف ومكّنه مع أفراد عائلته من التحكم بمقدرات البلاد الاقتصادية.
وبعد نحو خمسة أشهر على الأحداث المأساوية التي شهدتها كازاخستان بين 5 و8 يناير/كانون الثاني الماضي التي أودت بحياة 237 شخصاً، أيد 77.18 في المائة من المصوتين في استفتاء الأحد التعديلات على نحو ثلث مواد دستور البلاد، بمشاركة أكثر من ثلثي السكان ممن يحق لهم التصويت.
وأعرب توكاييف، أمس الاثنين، أثناء استقباله وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان عن ثقته في أن تمهّد نتائج الاستفتاء الطريق أمام بناء "كازاخستان الجديدة". وفي تصريحات سابقة قال توكاييف إن التعديلات على الدستور ستشكل ضماناً لعدم تكرار الاحتجاجات الجماهيرية.
توجّه التعديلات الدستورية
وتطاول التعديلات الجديدة نحو 33 مادة في الدستور تضمن، حسب واضعيها، الانتقال من دولة بنظام رئاسي فائق الصلاحيات، إلى جمهورية رئاسية ذات برلمان قوي.
وتحدّ التعديلات من مشاركة رئيس الدولة في تشكيل مجلس الشيوخ، وتأثيره على الهيئات التمثيلية والتنفيذية المحلية، كما تحظر عضوية الرئيس في الأحزاب السياسية لفترة توليه السلطة، وكذلك على رؤساء وأعضاء لجنة الانتخابات المركزية ولجنة الاقتراع المركزية ورؤساء المناطق ونوابهم.
واستأثرت التعديلات بحظر تقلد أقارب الرئيس مناصب قيادية في هياكل الدولة والمؤسسات الحكومية بأهمية كبيرة، نظراً لأنها شكّلت عاملاً أساسياً لاحتجاجات يناير، التي كشفت عن الفساد الكبير لأقارب نزارباييف وتحكمهم باقتصاد البلاد.
وتضمنت التعديلات إنشاء محكمة دستورية، وحظر عقوبة الإعدام وتحسين آليات حماية حقوق المواطنين. ويسهم تنفيذ هذه الإصلاحات في تحديد قواعد جديدة للعبة السياسية في البلاد، وربما يسمح بإنهاء الانقسام الذي ولدته الاحتجاجات الأخيرة. وتسمح التعديلات بظهور أحزاب سياسية جديدة، ولكن نجاح التعددية رهن بفصل كامل للسلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية وعدم هيمنة الأخيرة على سابقتيها.
تطاول التعديلات نحو 33 مادة في الدستور تمنح البرلمان صلاحيات أكثر
وربما يكشف إعلان أيدوس أوكباي سكرتير الرئيس الكازاخي السابق نورسلطان نزارباييف عن دعم "أبي الأمة" للتعديلات، على الرغم من أنها تحرمه من جميع امتيازاته السابقة، على أنه صفقة بين الحكم البائد والحكم الجديد، تنطلق من تنازل الرئيس السابق عن تحريك مناصريه، ورفع الغطاء عن عائلته.
وقد يشكّل التنازل عن حصة من الموارد المالية والمادية الضخمة التي جمعها نزارباييف وعائلته صفقة مرضية في مقابل عدم المساس بدوره التاريخي كأول رئيس لكازاخستان بعد استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في عام 1990.
وباستثناء عدم تعيين الأقارب في مراكز حكومية، لا تمسّ التعديلات المقرة بصلاحيات الرئيس الأساسية، وفي المقابل فإنها تنهي صلاحيات الرئيس بتعيين حكام المقاطعات والمدن الرئيسية في شكل مباشر، وتلزمه بعرض شخصيتين على الأقلّ للتصويت من قبل المواطنين. وهذه الإجراءات قد تخفف من النقمة الشعبية على الرئيس في حال فشل أي حاكم في تنفيذ المهمات الموكلة إليه.
وتتوّج الموافقة على التعديلات الدستورية الخطوات السابقة لطيّ صفحة نزارباييف، وتفتح الباب أمام بداية عهد توكاييف فعلياً. وفي حال تبني تشريعات جديدة في البرلمان من روح التعديلات، يمكن أن تتغير كازاخستان نحو الانطلاق لمحاربة الفساد والمحسوبية والانتهاء من مرحلة احتكار السياسة والاقتصاد.
وفي حين يؤكد معظم الداعمين للتعديلات أن البلاد على أعتاب تشكيل "الجمهورية الثانية" مع تبني تعديلات عصرية على الدستور القديم، يجب الإشارة إلى تجربة تاريخية قديمة.
وتعود هذه التجربة إلى العهد السوفييتي، ففي عام 1936 تم اعتماد دستور جديد لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، نُظر إليه في حينها على أنه من أكثر الدساتير ديمقراطية في العالم، ولكن مادحيه ندموا بعدها بعام واحد فقط مع وصول القمع الستاليني (نسبة للزعيم السوفييتي جوزف ستالين) إلى ذروته في عام 1937.
فقد انقلب ستالين على الحقوق المدنية والحريات الشخصية، والديمقراطية الموعودة، وقتل ونفي عشرات الملايين من أماكن إقامتهم، وأرسى نظاماً حديدياً، على الرغم من استمرار العمل بدستور 1936 حتى عام 1977.
أطاحت التعديلات امتيازات عائلة نزارباييف
وعلى الرغم من تمكن توكاييف من الحصول على تأييد شعبي كبير لأفكاره ورؤيته للنظام السياسي الجديد، فإن إعادة تشغيل النظام السياسي الجديد بحاجة إلى مشاركة جماهيرية أوسع لضمان عدم فشل مساعيه لتكريس نجاح مصطلح "الجمهورية الثانية".
وهو مصطلح استُخدم على نطاق واسع في حملة دعم التعديلات الدستورية، في إشارة إلى الجمهورية الفرنسية الثانية (1848- 1852)، وإنهاء إمكانية عودة الدكتاتورية كما جرى في فرنسا، حين وصل بونابرت الثالث ابن أخي نابليون بونابرت الاستبدادي إلى السلطة، ونصب بعد ذلك نفسه إمبراطوراً.
انتخابات مبكرة قريباً
وعلى الرغم من التوقعات بأن يعلن توكاييف إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، فالأرجح أن هذه الخطوة غير ضرورية نظراً لأن الموافقة على التعديلات الدستورية تعدّ أيضاً استفتاءً داعماً لتوجهاته في الأشهر الأخيرة، ونظرتها لمستقبل البلاد.
وربما تتجلى الخطوة المقبلة بالتحضير لانتخابات برلمانية مبكرة، بهدف إخراج المقربين من نزارباييف من السلطة، واختبار كيفية تجديد النظام السياسي بأكمله، بناء على التغيير في آلية انتخاب نواب البرلمان الذين يقع على عاتقهم سنّ قوانين وتشريعات جديدة لتنفيذ التعديلات الدستورية.
وفي حال رغبة توكاييف في بناء نظام جديد، فإنه يجب فتح المجال لعدة أشهر حتى لا تتهم السلطات بخداع الناخبين، ومن أجل السماح بإنشاء قوى وأحزاب سياسية جديدة لتوسيع خيارات الناخبين وفتح نقاش سياسي واسع، لإعادة الحراك السياسي إلى كازاخستان.
فمع غياب الديمقراطية والحريات، أنهى نزارباييف الأساس الأيديولوجي للبلاد، ومكن العائلة والمقربين من السيطرة على الحياة السياسية والاقتصادية، والبديل الآن هو إعادة الثقة للناخبين، والتأكيد بأن صوتهم سيكون مهماً في تقرير مصير بلادهم لاحقاً.
ومع احتمال استمرار الجدل في حجم وأهمية التعديلات الدستورية التي وافق عليها أكثر من ثلاثة أرباع المقترعين الكازاخيين، فإن تسلسل الأحداث منذ الاحتجاجات الشعبية وصولاً إلى إقرار التعديلات، تفتح الباب أمام تغيرات قد تشكل نقطة تحول كبيرة في مسار البلد السوفييتي السابق، الذي ينعم بثروات كبيرة من النفط والغاز، حسمت التعديلات الجديدة أنها ملك للشعب بعدما كانت ملكاً للدولة بحسب الصياغة السابقة.