في هذه الأيام التاريخية ومأساويتها العربية وحراجتها الفلسطينية، لم يعد اللسان معقوداً كما في عقود النكبة الفلسطينية، التي عملت على شل التفكير بوظيفة وأداء النظام الرسمي العربي مع قضيته المركزية، وتدفع الأحداث على الساحة العربية في سنوات الثورات وأيام المواجهة الجارية على أرض فلسطين لمزيد من التفكر والتعمق، كي يتأكد الشارع الفلسطيني بصوابية خياره بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومشروعه الاستعماري المسبب لكل الكوارث والهزائم الفلسطينية والعربية، بعيداً عن أوهام التطبيع العربي مع المستعمر الصهيوني وأسس التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، ليبقى تحدي هزيمة الوعي والذاكرة الفلسطينية، أبرز ما يواجهه الفلسطينيون، فآباؤهم وأجدادهم أوكلوا لهم وعياً مكللاً بتاج الوعي الجماعي للإفلات من طوق الإبادة والتطهير العرقي.
تحدٍّ ناتج عن متغيرات جوهرية شهدتها المنطقة العربية وثوراتها، وسرعة الرد عليها بثورات مضادة، ارتبط نجاحها بعمليات تطبيع عربي مشترك مع المؤسسة الصهيونية لحصار ووأد الانتفاضات، ومتغيرات انعطافية مست بنية السلطة الفلسطينية وأداءها المُلخص بالتنسيق الأمني، ولنفس الأهداف التي تعزز المصلحة الإسرائيلية في البدء والخاتمة، وتمكينها من السيطرة على ما تبقى من أرض فلسطين.
التغيير الديموغرافي وتزوير التاريخ واختزاله بلوم الضحايا لا تختلف بالأهداف عن تلك التي يسعى الإسرائيلي إليها من خطة الاعتراف به والتطبيع معه
تطبيع ما بين المُضطهِد والمُضطهَد
ليس من المُسلّمات المسبقة القول إن ما يحدد طبيعة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي بأشكاله المتعددة، وفي الجوهر التطبيع الأمني والاقتصادي والثقافي، هو أثر لانخراط أحد الأطراف في عملية التسوية، والتطبيع مع المشروع الصهيوني، وتوطينه في العقل البشري، لتصبح جرائمه مع الاغتصاب والقتل الجماعي والفردي وكل أشكال الوحشية أمرًا مقبولًا، وليست هذه العملية في حقيقتها العميقة سوى نوع من تمرير تطبيع متبادل، وظيفته توطين الطاغية والمحتل للأبد.
والتغيير الديموغرافي وتزوير التاريخ واختزاله بلوم الضحايا، لا تختلف بالأهداف عن تلك التي يسعى الإسرائيلي إليها من خطة الاعتراف به والتطبيع معه، بمعنى آخر: تقوم كل تلك الممارسات على إرساء تطبيع ما بين المُضطهِد والمُضطهَد والمُستعمِر والمُستعمَر.
المكسب الأساسي الذي جنته المؤسسة الصهيونية، في حالة التطبيع العربي مع كل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية في أوسلو، وما تذرعت به لاحقاً الأنظمة الملتحقة بهذا الركب من أبوظبي والمنامة والرباط والخرطوم، أو التي تنتظر في طابور القبول الصهيوني بـ" شراكتها" في صنع السلام، ورعاية المصلحة الإسرائيلية التي اعتمدت أسلوب المساومة، وأبدعت في فرضه على الطرف الفلسطيني، عبر بندٍ صامدٍ من كل أوراق التفاوض بنموذج التنسيق الأمني الكاشف لمعنى "الشريك العربي والفلسطيني" المدمج بمصلحة إسرائيلية عليا مخترقةً معظم مساراته، وأصبحت رؤيتها الاستعمارية، محل إعجاب أنظمة عربية تروج لنجاح نموذجها المتبع في قهر الشعب الفلسطيني وبقبضة القمع والوحشية التي تأسست عليها، وأبقت المحتل طرفاً قوياً والعربي ضعيفاً بحاجة لاستدراج تجربة صهيونية متفوقة تجدد حيوية الاستبداد المتزعزع.
من زمن التطبيع إلى زمن التنسيق
في ماضي التطبيع العربي مع إسرائيل، كثرت التساؤلات عن مستقبل ومغزى العلاقة العربية معها، بالرغم من أن أحداً لم يكن يغفل خطوط العلاقة والمناورة الصهيونية باستدراج الأطراف العربية له، ومن ثم الانخراط الفلسطيني منذ أوسلو باتفاقات جوهرها لا يختلف عن الانصياع العربي للمطالب الصهيونية، وترجيح كفتها الاقتصادية والأمنية والسياسية لصالح إسرائيل بكل المقاييس والأرقام، ليس فيها أي وهم متوقع من أن تفرط إسرائيل والحركة الصهيونية التي أمسكت بنجاح زمام المبادرة في اختيار عواصم التطبيع العربي بردٍ دموي على الثورات، من أن تفرط بزمام المبادرة في صياغة شكل العلاقات بين "شُركائها" بالسلام للإقرار بالحقوق الفلسطينية.
هذا ما تشير إليه بوضوح أسس العلاقة من زمن التطبيع العربي مع إسرائيل، إلى زمن التنسيق الأمني مع الاحتلال، والمخصص بالأساس لصناعة جيل فلسطيني جديد يعتمد على عمق ارتباطه بالمحتل برعاية أميركية مشرفة على برامجه، وتحويل أجهزة أمن السلطة الفلسطينية إلى سلاح يوفر الأمن للمستوطنين ويمنع أي تحرك مقاوم لهم، اتُخذت هذه العلاقة ذريعة رسمية للتغطية على عمليات التطبيع العربي مع إسرائيل، إضافة لتبرير وتبني الرواية الصهيونية المتجولة بحرية في مدن وعواصم عربية، وتردف الحالة الفلسطينية بالمفهوم الصهيوني للتعبير عن تحللها من القضية الفلسطينية، تكامل الحالة العربية المطبعة والتنسيق الأمني المؤازر للاحتلال وفق المبدأ القائل بأن خيل السبق لم تعتد أن تؤازر بعضها بعضاً على أولوية الفوز وهي في الميدان، تتسابق أنظمة عربية مع السلطة الفلسطينية لتعزيز الانطباع لدى المستوى الأمني والسياسي الإسرائيلي بأنها على السكة الصحيحة التي تحمي المشروع الصهيوني، وبأن وجودها مرتبط على هذا المسار بمحاربة كل أشكال مناهضة نظام الأبارتهيد وتجريم كل فعل مقاوم له.
بوصلة ثابتة رغم قسوة التطبيع
على ضوء هذا الواقع، بجردة سريعة منذ "كامب ديفيد" ومن ثم "أوسلو" و"وادي عربة" إلى اتفاقات أبراهام التي دشنت هزيمة عربية رسمية سابقة ولاحقة، وكانت رائدة في الاستسلام للدولة العبرية، وعلى الرغم من مشهد الخراب الشامل، والتنكر المتغطرس لأبسط الحقوق العربية والفلسطينية، والتعالي عن المفاهيم الإنسانية في المواطنة والكرامة والحرية لشوارع عربية، فإن هناك على الأرض من يقلب كل هذه المعادلات والمفاهيم، يقاتل من أجل الحرية والانعتاق من الاحتلال والاستبداد، ومن كان مستهدفاً بالتطبيع للقبول بالمشروع الصهيوني في مجتمعات عربية، ما زال يعلن عن فلسطين بوصلة ثابتة لقضية تحرر وعدالة إنسانية، وفي فلسطين كلها من البحر إلى النهر، ما زال وسيبقى قتالا بهيا للدفاع عن الأرض، رغم قسوة التنسيق الأمني وبرامج الإدارة الأميركية والغرب لتدجين المجتمع الفلسطيني بأدوات السلطة القائمة، إلا أنها منيت بفشلٍ ذريع في السنوات الماضية، ومنذ هبة أيار 2021، ومواجهات القدس والشيخ جراح وأم الفحم وجولة العدوان الأخير على غزة التي أظهرت وحدة الشارع الفلسطيني وتلاحم الشارع العربي مع قضية فلسطين، إلى العمليات الفدائية في بئر السبع والنقب وتل أبيب في آذار ونيسان 2022، ومحاولة تسخين جبهة جنين وتوسيع دائرة العدوان نحو مدن الضفة وداخل الخط الأخضر وتهديد غزة، رغم الحصار المتعدد وإرهاب المستعمر والتنسيق الأمني ونشوء أحلاف عربية مساندة لإسرائيل، رغم كل ذلك يرتفع منسوب الفشل في إحداث كي جماعي للوعي الفلسطيني والعربي.
في هذا كله يلعب الجيل الفلسطيني المسمى جيل ما بعد أوسلو، وما بعد انتفاضة الأقصى العام 2000، الدور الجدير بالتأمل من الناحية الكفاحية في ظل أحوال التطبيع والتنسيق الأمني المنشغل بتلويث النضال الفلسطيني، وتزوير التاريخ وترويع البشر، في زمن الانحطاط الراهن والزمن المستقبلي الجميل، والذي تبين فيه فشل التضليل الفكري والثقافي والسياسي المنتشر بكثرة في منابر السلطة العربية وحناجرها العبرية التي عبرت منه إسرائيل إلى عواصم عربية فوق الجسر الفلسطيني الذي دشنته أوسلو مع كامب ديفيد.
انحسار لعبة طمس الحقائق
إذا تفحصنا بالوقائع ما يجري في فلسطين نرَ انحسار لعبة طمس حق شعب تحت الاحتلال بالمقاومة، وعلى امتداد ربع قرن من أوهام السلام، وقبلها في قرن نكبة الفلسطينيين، ومحاولة إعادة تركيب العالم العربي وفق التطبيع القائم مع المستعمر الصهيوني من جهة وسلطة التنسيق الأمني في فلسطين من جهة ثانية، فإننا نقول بصراحة إن الاستثناء فيها رموز التطبيع العربي والتنسيق الأمني الفلسطيني مع الاحتلال، والقاعدة الثابتة في كل ذلك رغم جسامة الهجمة التوسعية الاستيطانية العدوانية، بقاء نقيضها المقاوم على أرض فلسطين التاريخية، جرب الفلسطينيون وسلطتهم كل الخيارات المفروضة عليهم من صهاينة بني جلدتهم، ومن تحولوا إلى أداة طيعة في يد الاحتلال التي فاقت في شراستها في بعض المحطات حربها ضد المقاومين في الشارع الفلسطيني والعربي، والنتيجة كانت كلما صدحت حناجر الفلسطينيين في وجه المحتل ورفعوا قبضاتهم لمواجهة العدوان من كل حدب وصوب تكون فلسطين حاضرة في ضمير شوارع عربية وعالمية.
أخيراً، أنظمة التطبيع العربي ومن خلفها سلطة التنسيق الأمني، لا تحفل بالمتغيرات في شوارع عربية ولا في حركة الشارع الفلسطيني، لا في مقاومته ولا التفكير في استرداد صلابته، كما لو أن برجها التطبيعي والأمني منخلع عن الواقع، وعليه سيبقى المجتمع الفلسطيني يقدم الفرص الكبرى لدينامية العمل الوطني الفلسطيني الذي يمر بأزمة خانقة ومستعصية، بينما السلطة الفلسطينية ومعها كل النظام العربي المساند للمستعمر الصهيوني، يرى في مقاومة الشعب الفلسطيني "إرهاباً" وعنصراً شكلياً لا أهمية له في زمن التطبيع والتنسيق الأمني، وفي الحالات كلها إن خللاً ما موجودٌ في مكان معلوم وأمكنة متعددة، ذلك أن وهن الجسد الفلسطيني والعربي شفاؤه في فشلٍ محتوم للتنسيق الأمني ولسقوط مرامي التطبيع، وفي الشارع الفلسطيني والعربي، مخزون أكثر مما هو مطلوب لاحتياجات وأغراض أنظمة وسلطة مستسلمة لأقدار صهيونية لن يرى فيها الفلسطيني والعربي سوى سبباً لبؤسه واضطهاده.