دخلت الأزمة السياسية في البيرو، خلال اليومين الماضيين، فصلاً جديداً، مع إعلان السلطات في البلاد فجر أول من أمس الأحد، فرض حال الطوارئ على أن تشمل العاصمة ليما و3 مناطق أخرى في البلاد (صباح الأحد)، وهو ما تحدّاه المتظاهرون الرافضون لسلطة الرئيسة دينا بولوارتي، إذ واصلوا قطع الطرقات وتوجهوا أمس الاثنين بالآلاف باتجاه العاصمة.
وتهدد الأزمة المتواصلة في البيرو، منذ عزل الكونغرس في 7 ديسمبر/كانون الأول الماضي الرئيس اليساري بيدرو كاستيو، إثر محاولته حلّ البرلمان، واحتجازه بتهم عدة، منها "العجز الإخلاقي" عن إدارة الدولة، والفساد، بمخاطر انقسامات عرقية وطبقية. ويخرج المتظاهرون إلى الشوارع، رفضاً لتسليم الكونغرس سلطات الرئاسة إلى نائبة كاستيو، بولوارتي، ويطالبون بتنحيها وإجراء انتخابات مبكرة، وهو ما ترفضه حتى الساعة. لكن الأحداث أخذت منحى دموياً أخيراً، مع سقوط عشرات القتلى والجرحى الأسبوع الماضي، بقمع الأمن بالنار، لتظاهرات حاشدة خرجت في مقاطعة بونو، جنوب البلاد، حيث الغالبية من السكّان الأصليين.
وتوجه آلاف المتظاهرين، أمس الاثنين، نحو العاصمة ليما للاحتجاج بشكل جماعي ضد بولوارتي، رغم إعلان حال الطوارئ في العاصمة البيروفية وفي مقاطعتَي كوسكو وبونو في جنوب البلاد، وفي ميناء كالاو قرب العاصمة. وجاء ذلك بعد يوم تواصل فيه أيضاً قطع الطرقات من قبل المحتجين وتنظيمهم تظاهرات حاشدة.
تتركز أعمال العنف في جنوب جبال الأنديز، حيث يعيش شعبا الكيتشوا والأيماراس
وكانت بولوارتي قد فرضت حال الطوارئ بعد اعتقال كاستيو، وتعيينها رئيسة من قبل البرلمان، في 15 ديسمبر الماضي، وذلك لمدة 30 يوماً في جميع أنحاء البلاد. وفجر الأحد، تمّ تمديد الطوارئ، على أن تسري خصوصاً في ليما والمناطق الثلاث. إذ قد تكون السلطات راغبة بتسهيل عودة السيّاح إلى بعض المناطق، بعدما أكدّت النقابات المحلية أن قطاع السياحة في البلاد يخسر نحو سبعة ملايين سول (نحو 1,7 مليون يورو) يومياً بسبب الأزمة.
ويجيز إجراء الطوارئ تدخّل الجيش لحفظ النظام ويقضي بتعليق عدد من الحقوق الدستورية، مثل حرية الحركة والتجمع. لكن ذلك لم يمنع نحو 500 شخص الأحد من تكريم ضحايا التظاهرات، في قداس أقيم بكاتدرائية في وسط ليما باللغتين الإسبانية والكيتشوا، بالإضافة إلى تكريم شرطي أُحرق حيّاً في مدينة خولياكا على الحدود مع بوليفيا. ودعا رئيس أساقفة ليما كارلوس كاستيو، خلال القداس، إلى "زوال الأعمال الوحشية الرهيبة من أفقنا"، وإلى "السلام والأخوة ووضع حد لدوامة العنف".
وتتركز أعمال العنف في جنوب جبال الأنديز، حيث يعيش شعبا الكيتشوا والأيماراس. وأوصت مفوضية الدول الأميركية لحقوق الإنسان، التي زارت ليما الأسبوع الماضي، باندماج أفضل لهذين الشعبين في المجتمع البيروفي لوضع حدّ للاضطرابات. لكن الحكومة تنسب الاضطرابات إلى "محرضين محترفين يتلقون تمويلاً غير مشروع".
وأعلنت الشرطة اعتقال روسيو لياندرو، وهي زعيمة نقابية من منطقة أياكوتشو، بتهمة تمويل الاحتجاجات. وقال المتحدث باسم الشرطة الجنرال أوسكار أريولا، إن لياندرو واسمها الحركي "الرفيقة كوسي"، كانت تنتمي إلى الحركة الماوية المسلحة السابقة "الدرب المضيء" (التي دخل معها الجيش في معارك مسلّحة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي).
ووفقاً لمصادر خاصة بـ"العربي الجديد" في ليما، فإن البيرو "بات يشهد انقساماً غير مسبوق، حيث تحوّلت العاصمة ليما إلى ما يشبه العزلة عن بقية أقاليم البلاد". فاعتقال كاستيو، المتحدر من الشعب الأصلي للبيرو، تسبب بكثير من التشنجات العرقية والطبقية، ما يهدد عملياً بفوضى عارمة وانقسامات غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية، حيث يبدي السكّان الأصليون استغرابهم من توجيه اتهامات لرئيسهم المعتقل بـ"الإبادة الجماعية والقتل والأذى الجسيم".
وتفاقمت الأوضاع خلال الأسبوع الماضي بعدما أشيع بأن الجيش يستعد للانقضاض على السلطة، وهو ما جرى عملياً من خلال إعلان الطوارئ والانتشار الكثيف للجنود والأمن على مساحة البلد. ويعني ذلك ببساطة أن زمام الأمور باتت بيد العسكر، بحجة "الحفاظ على السلام والنظام"، بينما جرى تعليق الحقوق الدستورية، بما في ذلك التظاهر والاحتجاج. واللافت في هذا المجال، أن المناطق ذات الأغلبية من السكّان الأصليين، مثل كوسكو وبونو وكالاو، أصبحت محكومة بأحكام عرفية وتحت الأوامر العسكرية المباشرة.
عسكر البيرو على الخط مجدداً
على الرغم من الإعلان عن أن حال الطوارئ سارية لمدة شهر واحد، إلا أن دخول الجيش على الخط يعيد التذكير بالسلطة العسكريتارية التي سادت في البلاد خلال عقود من حروب العصابات التي خاضتها جماعات يسارية ضد سلطات ليما خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، وأدت إلى مقتل الآلاف في عمليات تفجير واستهداف بالسلاح طاول معظم أقاليم البيرو.
وكان اليساري كاستيو (53 عاماً) قد وصل إلى السلطة في البيرو، في يونيو/حزيران 2021، بعدما تمّ ترشيحه من قبل تحالف يمثل قوى يسارية مختلفة للغاية، بما في ذلك قوى اليسار المتشدد التي قاتلت من أجل حقوق سكّان البيرو الأصليين. وبالنسبة لهؤلاء، يعكس كاستيو، الذي نشأ في المرتفعات الفقيرة في البيرو ابناً لمزارعين كادحين في قرية صغيرة تسمى سان لويس دي بونيا، حقيقة أغلبية البيروفيين من السكّان الأصليين الذين صار لهم للمرة الأولى رئيس يمثلهم ويشبههم.
بالطبع، لم يرق وصول كاستيو إلى الرئاسة للأحزاب اليمينية وللأثرياء ولعسكر البيرو، الذين وجدوا في ماضيه عضواً سابقاً في منظمة "الدرب المضيء"، ذريعة لفتح ملفات سابقة والانقلاب على التحول الديمقراطي في سياق أميركي لاتيني على مدار نحو عقدين.
تفاقمت الأوضاع خلال الأسبوع الماضي بعدما أشيع بأن الجيش يستعد للانقضاض على السلطة
وتبدو الاحتجاجات الأخيرة، وكأنها محدّدة بسقف مطلب استقالة بولوراتي وإطلاق سراح كاستيو والذهاب إلى انتخابات جديدة وسريعة، لكن ذلك ليس كل الصورة، لكن الحقيقة في الواقع هي من هذا البلد الجبلي، وشملت منذ عام 2019 أنحاء مختلفة من دول أميركا الجنوبية التي حُكمت بعد الانتهاء الرسمي لفترات الاستعمار الأبيض قبل نحو 200 سنة، من الطبقة العليا البيضاء، وتحالفاتها مع أثرياء يتحدرون من السكّان الأصليين ودول أخرى عبر شركات كبرى موجودة في العديد من دول أميركا اللاتينية، وخصوصاً الناطقة بالإسبانية، إذا ما استثنينا البلد الأكبر في القارة والناطق بالبرتغالية، البرازيل.
ليس سرّاً أن مفاصل الاقتصاد والثراء بقي في غير متناول فقراء دول أميركا اللاتينية، بما في ذلك البيرو وكولومبيا وبوليفيا، وغيرها من الدول التي زادت فيها الفروق الطبقية والاجتماعية مع تواصل احتكار الطبقات العليا للسلطتين السياسية والمالية. ويأتي ذلك دون إغفال الدور الذي لعبته واشنطن على المستوى الأمني والاقتصادي لتعزيز السلطة التي تخدم مصالحها، ومنع الاختراق اليساري في فترة الحرب الباردة.
شبح الانقسام وارتفاع أصوات السكّان الأصليين
لا شيء في البيرو يختلف عن بقية دول القارة لناحية غياب المساواة وانتشار الفقر وغياب حقوق السكّان الأصليين، الذين اضطر كثيرون منهم للهجرة الداخلية والخارجية بحثاً عن عمل، وللخروج من حالة الفقر المدقع الذي يضرب مدنهم المهمشة، إلا من انتشار مزارع يمتلكها البيض، كما هو الحال في البيرو التي تنتشر فيها مزارع "الألمان" في جنوب البلاد، غير بعيدة عن عاصمة وموطن الشعب الأصلي في كوسكو.
محاولة الرئيس المعتقل كاستيو تعديل القوانين التي تمسّ الشركات والمستثمرين الأجانب في بداية ديسمبر الماضي، ووجهت بقوة من قبل النخب القلقة على ما أشاعته من أنه "سيحول البيرو إلى فنزويلا"، لإخافة الشعب من التعديلات التي أراد منها كاستيو نشر المزيد من العدالة الاجتماعية، ومنح السكّان الأصليين حقوقاً لم يحصلوا عليها منذ أكثر من 100 عام.
حاول كاستيو في 7 ديسمبر الماضي حلّ البرلمان، وقال إنه سيحكم بمراسيم لتحديد قوانين البلاد، باعتبار أن البرلمان (الكونغرس) يشكل عائقاً أمام الإصلاحات المطلوبة، بعد نحو 17 شهرا من المطبات، والتعارض بين رغباته والقوى التي تقف مدافعة عن مكتسبات الأثرياء في البلاد.
وبدلاً من ذلك، قام البرلمان البيروفي بتصويت على إجراءات عزل كاستيو، وعينوا نائبته، دينا بولوارتي، بدلاً منه في الرئاسة، بعدما اقتادوه مباشرة إلى السجن. وكانت سبقت ذلك، فترة حكم مضطربة لكاستيو، جرى فيها وصول 80 وزير إلى السلطة، وأطلقت 6 تحقيقات جنائية بحق الرئيس السابق، وفشلت محاولتان سابقتان لعزله.
وينظر كثيرون، محلياً وخارجياً، إلى بولوارتي باعتبارها رئيسة صورية، فيما الحكم في نهاية المطاف بيد رئيس الوزراء ألبرتو أوتارولا، مدعوماً من وزير الدفاع خورخي لويس شافيز، وهما من أشد المدافعين عن قمع الاحتجاجات بالقوة، تحت مسمى "الدفاع عن سيادة القانون". بل إن الجيش اتهم المتظاهرين بأنهم "ممولون من قبل المستثمرين الأجانب وتجار المخدرات الذين يحاولون تدمير البلاد".
شعرت بولوارتي بحجم المأزق الذي يخلفه العنف على الانقسامات في مجتمع بلدها، فقدمت الجمعة الماضي اعتذاراً علنياً عن سقوط ضحايا، ما عجّل عملياً في اندفاعة الجيش وحلفائه من الأثرياء لفرض الطوارئ، أو بمعنى آخر الانقلاب تماماً على الديمقراطية الفتية في البلد.
لا شيء في البيرو يختلف عن بقية دول القارة لناحية غياب المساواة وانتشار الفقر وغياب حقوق السكّان الأصليين
وليس بعيداً عن تعقد المشهد، شنّ أنصار الرئيس السابق هجمات على مراكز الشرطة والمطارات والمصانع، وسط خروج احتجاجات قوية خصوصاً في المناطق الجنوبية، حيث تعطل العمل في 5 مطارات وقتل العشرات عمداً، كما حدث في مطار مدينة جولياكاس في جنوب شرق البلاد. وبحسب ما وصفت "المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان"، فإن مقتل المتظاهرين هي عبارة عن "عمليات إعدام خارج القانون".
وأحد أهم المؤشرات على استعصاء الوضع وانقسام المجتمع، يتمثل بدخول جمعية السكّان الأصليين في منطقة الأمازون البيروفية، والعديد من المنظمات التي تمثل المزارعين الفقراء، من بين مجموعات أخرى ونقابية، على خط مواجهة السلطة الأمنية -العسكرية، متهمين "النخبة السياسية" بدفع البلاد نحو الانتحار السياسي.
في العموم، لا تبدو حالة عدم الاستقرار التي تعيشها البيرو، جديدة، بعدما تعاقب خلال السنوات الست الماضية 6 رؤساء جمهورية، أي بمتوسط رئيس لكل عام. وباستمرار العمل بنفس الدستور والقوانين السابقة منذ 20 سنة، والتي تعيق العمل الحزبي الحقيقي ووجود تكتلات برلمانية قوية، يبدو أن البلد يسير نحو تأزم أكبر، قد يتخذ أشكالاً أكثر عنفاً وإراقة للدماء وانقساماً أفقياً وعمودياً. والأخطر من ذلك هو أن يصبح واقعاً التفكك بين العاصمة ليما وبقية الأقاليم الـ25، وخصوصاً تلك التي تقطنها غالبية من السكان الأصليين، حيث يعيش الناس تحت خط الفقر (40 في المائة من مجموع البيروفيين تحت خط الفقر)، والعودة إلى كوابيس "الحرب الأهلية" (أو حروب العصابات).
رؤساء متهمون وفارون وفاسدون
يذكر أن للبيرو تاريخا طويلا من الاضطرابات السياسية، والحكم السياسي – العسكري. فالرئيس الأسبق ألبرتو فوجيموري (قبل 30 عاماً)، نجح في الانقلاب على البرلمان، بدعم العسكر، وبقي في السلطة يحكم فردياً لسنوات عدة شهدت عمليات عنف وإرهاب.
ولاحقاً، فرّ فوجيموري إلى تشيلي، خوفاً من السجن، فأعاده منها بعد جهد طويل المدعي العام (ونائب الرئيس السابق) عمر شحادة (من أصول فلسطينية) ليقضي حتى اليوم عقوبة السجن على ما اقترفه من انتهاك لحقوق الإنسان وفساد. وفرّ خليفة فوجيموري، أليخاندرو توليدو، بدوره، إلى الولايات المتحدة، وهو طليق ترفض واشنطن تسليمه. بعده انتحر الرئيس الفاسد آلان غارسيا حين جاءت الشرطة للقبض عليه.
والرئيس الأسبق أولانتا أومالا قضى أيضاً حكماً بتهمة الفساد، بينما يخضع بيدرو بابلو كوتشينسكي للإقامة الجبرية، ويخضع للتحقيق الرئيس الأسبق مارتن فيزكارا.