البريد المركزي: معقل الثورة الجزائرية "المعتقل" منذ 20 شهراً

22 فبراير 2021
صمّم المهندسان ماريوس تودوار وجول فوانو مبنى البريد (العربي الجديد)
+ الخط -

لكل الثورات الشعبية أمكنتها وساحاتها، ثمّة كيمياء ثورية تحدث بين الشعوب والساحات في لحظة تاريخية، فكما للمصريين ميدان التحرير، وللتونسيين شارع بورقيبة، ولليبيين ساحة المحكمة في بنغازي، اتخذ الجزائريون قبل عامين البريد المركزي ساحة للحراك الشعبي. في هذه الساحة أُقيم "منبر الخطابة"، الذي تحول إلى مصدر للهتافات والمطالب السياسية. لكن بعد 14 أسبوعاً من التظاهر، "اعتقلت" السلطة الساحة، وعلى الرغم من مقاومة تظاهرات الحراك الشعبي دفاعاً عنها، لكنها لم تتمكن من تحريرها من قبضة الشرطة، التي أغلقت النفق الجامعي الذي كان يسميه الجزائريون خلال الحراك "غار حراء".

بررت السلطات إغلاق الساحة بداعي هشاشتها وانهيار بعض السلالم

في شهر مايو/أيار 2019، أغلقت السلطات الجزائرية ساحة البريد المركزي وسط العاصمة، التي تضم المدرجات التي كانت تمثل المعقل الرئيسي لتظاهرات الحراك الشعبي، وقبل الجمعة الـ14 للحراك، وضعت السلطات صفائح حديدية على الساحة والمدرجات. وبررت هذا الإغلاق بداعي هشاشتها وخطورة مواصلة استعمالها من قِبل الحشود الشعبية كل يوم جمعة، وبما اعتبرته، بحسب تقرير فني: "وجود خطر على حياة الأشخاص بعد التقرير الذي أنجزه مكتب الخبرة التقنية لولاية الجزائر، الذي يؤكد انهيارا جزئيا لبعض السلالم وهشاشتها، خصوصاً مع وجود المئات من الأشخاص فوقها".

في تلك الفترة بثت السلطات تقريراً مصوراً في التلفزيون الرسمي يظهر وجود تشققات أسفل السلالم وتناثر الحجارة تحتها، لكونها بُنيت من دون وجود مرتكزات إسمنتية تساعد على تحمّل أعداد هائلة من المتظاهرين فوقها. وبغض النظر عن الأسباب والمبررات التقنية التي ساقتها السلطات لإغلاق ساحة البريد المركزي، فإن طول فترة تسييج الساحة منذ مايو 2019، من دون أن تقوم السلطات بترميمها، والإبقاء عليها في تلك الوضعية التي تشوّه قلب العاصمة، تعزز الاعتقاد بأن الإغلاق كان لدواعٍ سياسية مرتبطة بقطع اتصال المكان بالثورة الشعبية والمطلبية السياسية، ومنع تحوله إلى رمزية سياسية يمكن أن تؤرق السلطات في الزمن السياسي المقبل.

تحتل ساحة البريد المركزي أو "البريد العام" موقعاً استراتيجياً وسط مدينة الجزائر، وهي فضاء مفتوح على عدد من الشوارع، ولذلك كانت كل التظاهرات الحراكية التي تتدفق من الشوارع الكبرى التي تتوسط قلب العاصمة الجزائرية تنتهي كلها عند ساحة البريد. وكلها شوارع تحمل أسماء شهداء رموز الثورة الجزائرية، وهي شوارع "العربي بن مهيدي" و"ديدوش مراد" و"حسيبة بن بوعلي"، و"العقيد عميروش" وشارع "عسلة حسين" و"زيغود يويسف"، إضافة إلى طرق متفرعة عنها. من هنا تأتي أهمية موقع ساحة البريد وإدراك السلطة ضرورة غلق الساحة لمنع تجمع والتقاء التظاهرات فيها. وما عزز من مخاوف السلطة أكثر في تلك الفترة، تصاعد دعوات كانت تحث على بدء عصيان مدني واعتصام مفتوح، وهو ما تخوفت السلطات من أن يجري تنفيذه في الساحة وجوارها.

من مكاسب الحراك الشعبي، إعادة اكتشاف الجزائريين لأمكنة عدة

بنيت الساحة كفضاء خارجي مع إنشاء مبنى البريد الكبير وسط العاصمة الجزائرية في الفترة الاستعمارية الفرنسية عام 1910، والذي يعد تحفة معمارية صممها المهندسان ماريوس تودوار وجول فوانو وزيّناه بالزخارف الإسلامية. وتقابل ساحة البريد نافورة مياه في حديقة صغيرة غير مهيأة وممر يُستغل في الوقت الحالي كمكان لبيع الكتب القديمة، وحديقة صغيرة أخرى من الجانب المقابل مع مدرج كان يستغل كمكان لإقامة الاحتفالات في الهواء الطلق. وفي جوارها أيضاً حديقة باستور وحديقة صوفيا، وينتشر قبالة الساحة عدد من المقاهي وباعة الورود. مع العلم أن أحد المكاسب المحصّلة في الحراك الشعبي، هو إعادة اكتشاف الجزائريين للأمكنة التي كانت مستسلمة للواقع كما الناس، وتلمّس روح أخرى لساحة البريد المركزي والنفق الجامعي وساحة أودان وغيرها.

ورأت أستاذة الإعلام في جامعة العفرون في البليدة (70 كيلومتراً جنوبي العاصمة الجزائرية) شهرزاد لمجد، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "ساحة البريد المركزي أدت دوراً، في الرمزية الثورية والصورة المرئية للثورة السلمية عموماً. وأن الجزائريين وجدوا في هذا المكان والساحة التي تحمل هيبة وعنفوان المعمار والفضاء المتاح لاستقطاب الجماهير، خصوصية اللحظة الثورية وفضاءً لرفع المطالب التي كانت قبل الحراك غير مسموح بها، في ظل التعتيم وتكميم الأفواه في حقبة استمرت لعقدين من الزمن". وقبل فترة قصيرة، تصاعدت أصوات قادة أحزاب سياسية وقوى مدنية، دعت الرئيس عبد المجيد تبون إلى إطلاق تسمية "ساحة الحرية" على ساحة البريد المركزي، وتحويل مبنى البريد المركزي إلى "متحف الحراك الشعبي" تخليداً لذكرى الثورة السلمية.