تعكس خريطة الانتخابات الرئاسية، التي يجريها النظام السوري اليوم الأربعاء للتجديد لبشار الأسد لسبع سنوات جديدة في الحكم، الحالة التي وصلت إليها البلاد بعد أكثر من عشر سنوات من الثورة الشعبية. ولن يستطيع هذا النظام تنظيم انتخاباته، التي هي بمثابة إهانة لكل ما تفرضه فكرة الانتخابات من منافسة حقيقية ومنح جميع المواطنين الحق في المشاركة ترشحاً أو تصويتاً، في الكثير من المناطق بعدما خسر مساحات كبيرة من الجغرافيا السورية التي تبلغ نحو 180 ألف كيلومتر مربع، فيما لديه سيطرة جزئية على مناطق أخرى لن يتمكن أيضاً من إجراء انتخاباته فيها. هذا الواقع يكشف كيف مزقت الحرب التي شنّها نظام الأسد على شعبه منذ ثورة 2011 وتخللها ارتكاب مجازر كبيرة لم يتوان عن استخدام السلاح الكيميائي فيها، سورية إلى مناطق عدة خاضعة لسيطرة أطراف مختلفة، وبنفوذ كبير لدول خارجية، أكانت إيران أم روسيا اللتين ساعدتا الأسد على البقاء في السلطة، أم تركيا والولايات المتحدة.
أمام هذا الواقع، ومع عدم قدرة الأسد على إجراء انتخاباته على مساحة واسعة من سورية، وفي ظل تهجير ونزوح ملايين السوريين داخل البلاد وخارجها، لن يشارك في انتخابات اليوم سوى نسبة محدودة من السوريين، أكان بإرادتهم أم تحت التهديد بعدما لم يوفر النظام وسيلة لضمان مشاركة كل من يستطيع ترهيبه. وبالتالي لن يُقدّم هذا الاستحقاق صورة "الشرعية الشعبية" المزيفة التي يحاول الأسد وحلفاؤه ترويجها، للبقاء أولاً في الحكم لسبع سنوات مقبلة، ثم الترويج بأن الحرب انتهت في سورية وأن الانتخابات تُبرز نوعاً من الاستقرار، بما يمهد لتطبيع العلاقات مع دول خارجية، في مهمة بدأتها موسكو قبل فترة، وذلك تحضيراً لمرحلة "إعادة الإعمار"، الأهم بالنسبة للنظام وحلفائه، خصوصاً أن تكلفة إعادة الإعمار تُقدر بحوالي 300 مليار دولار أميركي على الأقل، وهي ما تحتاج إلى دعم دولي كبير.
ويترافق كل ذلك مع تجاهل الحل السياسي وانتقال السلطة الذي نصّ عليه القرار الدولي رقم 2254 وما تلاه من مسارات سياسية لم تصل إلى نتيجة بعدما بقي القرار حبراً على ورق، مع تعطيل النظام مسار التوصل إلى هيئة حكم انتقالية، قبل تقسيم المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا، القرار إلى أربع سلال (هيئة حكم انتقالية، الدستور، انتخابات، مكافحة الإرهاب)، ولكنها توقفت كلها بسبب مماطلة النظام، واختُصرت بإنشاء لجنة دستورية عام 2019 فشلت في تحقيق أي تقدم حتى الآن.
وبعد أكثر من عشر سنوات على انطلاق الثورة السورية، يُجري النظام انتخابات رئاسية بلا أي أفق لحل سياسي، بعد سقوط نحو 388 ألف قتيل على أيدي أطراف النزاع المختلفة، أكان النظام والمليشيات الموالية له وروسيا وإيران، أم المعارضة والتنظيمات المتشددة، بالإضافة إلى اعتقال نحو 100 ألف شخص. كما شهدت السنوات العشر تهجير نحو 6.7 ملايين شخص من بيوتهم، ولجوء 5.6 ملايين شخص إلى خارج حدود سورية، وتسجيل خسائر اقتصادية قدّرتها الأمم المتحدة بنحو 440 مليار دولار، ووصول 90 في المائة ممن يعيشون في الداخل السوري إلى ما تحت خط الفقر.
كثّف النظام مع اقتراب إجراء الانتخابات، من أنشطة أجهزته الأمنية ومليشياته والفاعليات المحلية التي تعمل في خدمته
ويتحضر بشار الأسد لولاية رابعة عبر انتخابات يجريها اليوم وفق دستور عام 2012 الذي فتح الباب لأول مرة في سورية منذ عام 1963 أمام وجود أكثر من مرشح، ليسمح النظام بمرشحين اثنين إضافة إلى الأسد في هذه الجولة، هما عبد الله سلوم عبد الله ومحمود مرعي، لكن مشاركتهما لن تكون أكثر من صورية لكونها صنيعة أجهزته الأمنية. وكثّف النظام، مع اقتراب إجراء الانتخابات، من أنشطة أجهزته الأمنية ومليشياته والفاعليات المحلية التي تعمل في خدمته، لترهيب المواطنين ودفعهم للمشاركة في هذا الاستحقاق، حتى أن مليشيات النظام في حلب طالبت بعض العائلات بدفع مبالغ مالية من أجل المشاركة في نصب الخيم وتزيين الشوارع بصور رئيس النظام.
مناطق خارجة عن السيطرة
وتصطدم العملية الانتخابية التي تُنظم اليوم الأربعاء، بعدم قدرة النظام على وضع صناديق الانتخاب في الكثير من المناطق التي فَقَد السيطرة عليها. ففي الشمال الشرقي من سورية، أو ما بات يُطلق عليه اصطلاحاً "شرقي نهر الفرات"، للنظام وجود رمزي في مربعين أمنيين، في مدينتي القامشلي على الحدود السورية التركية، والحسكة مركز المحافظة التي تحمل ذات الاسم.
وحسم "مجلس سورية الديمقراطية" (مسد) الجناح السياسي لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي تسيطر على جل الشمال الشرقي من سورية، موقفه من الانتخابات، وأكد أنه لن يكون جزءاً منها. وشدد "مسد" في بيان قبل أيام على أنه "غير معني بأي انتخابات لا تحقق أهداف السوريين في حياتهم وحقوقهم وحضورهم السياسي"، مشيراً إلى أنه "لن يكون طرفاً ميسّراً لأي إجراء انتخابي يخالف روح القرار الأممي 2254". وأضاف: "لا انتخابات قبل الحل السياسي وفق القرارات الدولية، والإفراج عن المعتقلين، وعودة المهجرين، ووضع أسس جديدة لبناء سياسي خالٍ من الاستبداد". من جهته، أكد بهزاد عمو من المكتب الإعلامي في "مسد"، لـ"العربي الجديد"، أن "الإدارة الذاتية" ذات الطابع الكردي "لن تسمح بإجراء الانتخابات في المناطق التي تسيطر عليها في شمال شرقي سورية". وبيّن أن الإدارة "لن تتدخل في المربعين الأمنيين اللذين يسيطر عليهما النظام في محافظة الحسكة".
وتدير "الإدارة الذاتية" الشمال الشرقي من سورية، ومنطقة منبج في ريف حلب الشمالي الشرقي والواقعة غربي نهر الفرات. وتسيطر "قسد"، التي تشكّل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، على نحو ثلث مساحة سورية. وتضم منطقة شرقي نهر الفرات كامل مساحة محافظة الحسكة، والجزء الأكبر من محافظة الرقة، ونحو نصف مساحة دير الزور، وجانباً من ريف حلب الشمالي الشرقي والذي يضم منطقتين هامتين هما: مدينة منبج غربي النهر، وعين العرب (كوباني) شرقه.
وفي داخل منطقة شرقي نهر الفرات، تسيطر الفصائل المعارضة المرتبطة بالجانب التركي على شريط حدودي بطول 100 كيلومتر، وبعمق 32 كيلومتراً، يضم مدينتين هما: تل أبيض في ريف الرقة الشمالي، ورأس العين في ريف الحسكة الشمالي الغربي. وترفض المعارضة بالمطلق الانتخابات الرئاسية وتعتبرها "مهزلة" هدفها تثبيت الأسد في السلطة حتى عام 2028. كما تسيطر فصائل المعارضة على جانب كبير من ريف حلب الشمالي وهو ما بات يُعرف بـ"منطقة درع الفرات" والتي تضم العديد من المدن، منها: جرابلس، أعزاز، والباب، إضافة إلى العديد من البلدات، أبرزها: مارع والراعي. وفي ريف حلب الشمالي الغربي تفرض هذه الفصائل سيطرة كاملة على منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية من السكان.
وإلى الغرب من هذه المنطقة، تشترك هذه الفصائل مع "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) في السيطرة على قطاع واسع من محافظة إدلب، وجانب من ريف اللاذقية الشمالي. وتضم هذه المنطقة العديد من المدن والبلدات، أبرزها: إدلب وهي مركز المحافظة، وجسر الشغور، وسلقين، وحارم، وسرمدا، وسواها. وفي جنوب سورية، لا سيطرة فعلية للنظام على الكثير من المدن والبلدات والقرى في محافظة درعا، ما يعني أن الانتخابات الرئاسية لن تتم في كامل هذه المحافظة والتي لم تهدأ منذ ربيع 2011، الذي شهد انطلاقة الثورة.
ريف درعا الغربي الذي يضم بلدات عدة لن يشهد أي نشاط انتخابي
وذكرت مصادر محلية لـ"العربي الجديد" أن "ريف درعا الغربي الذي يضم بلدات عدة، منها طفس، تل شهاب، المزيريب، اليادودة، لن يشهد أي نشاط انتخابي"، مضيفة: "لا تزال مجموعات محلية كانت في صفوف المعارضة المسلحة تسيطر على هذا الريف". كما أوضحت أن ريف درعا الشرقي ومركزه مدينة بصرى الشام "لن يشهد هو الآخر أي نشاط، وكذلك الحال في حي درعا البلد القريب من مركز مدينة درعا مركز المحافظة".
مناطق النظام
وتسيطر قوات النظام على مدينة درعا مركز المحافظة، وعلى الجانب الأكبر من ريف درعا الشمالي القريب من العاصمة دمشق، وبالتالي ستوضع صناديق الانتخاب في بلدات هذا الريف ومنها الصنمين وإزرع ونوى. وفشلت جهود بذلها الروس من أجل إقناع قادة سابقين في المعارضة ووجهاء محافظة درعا، لتأييد الانتخابات واختيار بشار الأسد الذي أعطى أجهزته الأمنية الضوء الأخضر للقيام بعمليات انتقامية بحق المعارضين بعد توقيع اتفاقات التسوية والتهدئة في منتصف عام 2018. ولم يلتزم النظام ببنود هذه الاتفاقات خصوصاً لجهة إطلاق معتقلين، ومن ثم لن تشهد محافظة درعا عملية انتخابية ذات قيمة، خصوصاً أن فعاليات ثورية هددت باستهداف كل من يشارك أو يسهّل لهذه العملية في المحافظة.
وفي جنوب سورية أيضاً، تقع محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية من السكان تحت سيطرة النظام بشكل كامل، ولكن المعطيات تشير إلى أن العملية الانتخابية ستشهد إقبالاً يقتصر على موظفي الدولة وأعضاء حزب البعث، في ظل دعوات متصاعدة إلى المقاطعة، وبروز حملات تحت شعار "لا تترشّح يا مشرشح" في إشارة واضحة إلى بشار الأسد. ولن تشهد البادية السورية التي تشكل نحو نصف مساحة البلاد أي نشاط على صعيد الانتخابات بسبب وجود تنظيم "داعش" الذي بات المتحكّم الفعلي بهذه المساحة مترامية الأطراف باستثناء مدينة تدمر التي تحوّلت إلى مركز كبير للمليشيات الإيرانية التي منعت سكان المدينة من العودة باستثناء عائلات متعاونة معها.
في المقابل، يسيطر النظام بشكل فعلي على العديد من المحافظات، في مقدمتها العاصمة دمشق التي تشهد نشاطاً انتخابياً مكثفاً لصالح بشار الأسد. ومن المتوقع أن تشهد محافظة ريف دمشق عملية انتخابية في أغلب مناطقها على الرغم من أن مدناً وبلدات كاملة تعرضت للتدمير وتهجير سكانها خلال سنوات الحرب، ولا سيما الغوطة الشرقية للعاصمة التي تغيب عنها مظاهر الحياة بشكل شبه كامل مع التضييق الأمني الخانق لمن بقي فيها من سكان، خصوصاً في دوما أكبر مدن الغوطة.
يسيطر النظام بشكل فعلي على العديد من المحافظات، في مقدمتها دمشق التي تشهد نشاطاً انتخابياً مكثفاً لصالح الأسد
وفي وسط سورية، يفرض النظام سيطرة كاملة على محافظتي حمص وحماة باستثناء باديتيهما الواقعتين في ريفهما الشرقي. وفي الشمال يسيطر النظام على مدينة حلب كبرى مدن الشمال السوري، وكامل ريفها الشرقي والجنوبي وجانب من ريفيها الشمالي والغربي. ومن المرجح أن تشهد هذه المدينة الأكبر في سورية لجهة عدد السكان، نشاطاً انتخابياً عالياً بسبب ارتباط تجارها ورجال أعمالها بالنظام السوري، فضلاً عن وجود مليشيات محلية وأخرى إيرانية من المرجح أن تجبر السكان على التوجه إلى صناديق الانتخاب.
وفي شرقي البلاد، يسيطر النظام على بعض القرى في ريفي الرقة الغربي والجنوبي الغربي جنوب نهر الفرات، وكامل مساحة محافظة دير الزور جنوب النهر والتي يقع جزء كبير منها تحت سيطرة مباشرة من قبل المليشيات الإيرانية خصوصاً المنطقة الممتدة بين مدينتي الميادين والبوكمال على الحدود السورية العراقية. كما من المتوقع أن تشهد محافظتا اللاذقية وطرطوس على الساحل السوري إقبالاً كبيراً على التصويت في الانتخابات الرئاسية، كون المنطقة الساحلية هي الخزان الأكبر لمؤيدي النظام وتضم العدد الأكبر من أبناء الطائفة العلوية التي ينتمي لها بشار الأسد، الذي أصر على إجراء الانتخابات في بلاد ممزقة جغرافياً لاستعادة شرعية تبدو بعيدة المنال.