يمكن النظر إلى حالة الارتكاس التي حملت مشروع التحرر الفلسطيني على التراجع، وحركته الوطنية على التشظية وبعثرة الشمل بوصفها تدميراً لعناصر الوعي والجغرافيا واللغة. ذلك أنه لا يمكن للمرويّة السياسية الجامعة أن تكتسب راهنيّتها دون أن تتقلّص "إسرائيل" - روايةً ووجوداً- في تلك العناصر.
لقد كانت الانتخابات الفلسطينية في عام 2006 مدخلاً للانقسام. فلو لم تحصل لما كانت لدينا في قاموس الخراب السياسي الفلسطيني مفردتان تداولهما الفصيلان "الحاكمان" باسم "الشرعيّة". المفردة الأولى هي: "الانقلاب"، والثانية هي: "الحسم". فاهتزاز شرعية "فتح" بوصفها الأكثر رسمية من جهة، وبوصفها العابرة إلى مسار "أوسلو" بجواز سلطوي جديد ووثائق تاريخية ثورية من جهة ثانية، اعتُبِر دخولاً إلى دائرة الخطر التمثيلي. وعلى المقلب الآخر، اعتبرت "حماس" حسمها لانتخابات "المجلس التشريعي" ذخيرة معنوية كافية لسيطرتها على قطاع غزة في ما سمّته حسماً عسكريّاً موازياً لحسمها في صناديق الاقتراع.
ولاحقاً لعنصر الوعي الذي آل إلى وعي داخليّ مشوّه، وصل عنصر اللغة إلى آخر مداراته النشطة في تجاوز معنى الخصومة ومفرداتها عبر خطاب الاستقطاب والشرخ والتجريف. ولم يعد للفصيلين "الحاكمين" نيابة عن الاحتلال إلا أنهما ينوبان عنه فقط في تنظيم حياة الناس، وإدارتها، داخل جغرافيات مُقطّعة لا سلطة حقيقية لهما عليها.
والسؤال الراهن هو: ما معنى الانتخابات الآن؟ هل هي مجرد لازمة ديمقراطية ترفع كشعار للخروج من أزمة لم يعمل الفلسطينيون على تشخيصها أساساً قبل التفكير بمعالجتها؟ وهل تعني تبييض صفحة الانقسام والمنقسمين وإعادة إنتاجه بطرق أخرى أم الدخول في مرحلة سياسية فلسطينية تتلمس وحدة وطنية ما؟ هل تعني إضفاء شرعية جديدة على الطرفين النقيضين بما يضمن تأبيد هذا المسار السياسي؟
إن نفخ الوهم في السلطة الفلسطينية أحاط الناس بأوهام حولها. فلا هي تجاوزت عتبة السلطة إلى الدولة، ولا تحققت على الأرض بالحد الأدنى من سلطة "الحكم الذاتي". وإذا كان لا بد من "تداول للسلطة" عبر الانتخابات، فأين هذه السلطة بالضبط؟ هل هي الإيجاز الوبائي الذي مثله الناطق باسم حكومتها أثناء جائحة مرضيّة عالميّة؟ أم هي انتفاخ بيروقراطي وظيفي يُسمّي عودة "التنسيق الأمني" نصراً، ويعتبر "أموال المقاصّة" مقدمة لبعث الحياة في أركانه؟ أم هي تلك التي ترفع صور الرئيس التركي (أردوغان) في شوارعها تارةً، وتُرحّب أو تتحالف مع ما يعرف بالتيار الإصلاحي "الدحلاني" تارة أخرى، وتتناسى أنه كان ذريعتها "للحسم"؟
إن اعتبار الانتخابات مطلباً شعبياً يستبطن استمراراً لحالة الوهم. فليس ما يطلبه الفلسطيني هو التمثيل السياسي من خلال السلطة، إنما التمثيل الوجودي من خلال معادلات سياسية على الأرض.
ولعلّ انتفاخ طبقات اقتصادية ونفعيّة وأمنيّة، وتحديدها لأدوات العمل السياسي "الممكن" استناداً للتحول الذي أعقب سياسات المانحين، عبر مؤسسات أميركية وأوروبية، ومحاولة خلق النموذج الليبرالي الجديد لفلسطيني لم يعد استهلاكياً فحسب، بل صار يستهلك أدواته النضاليّة لتحقيق الشروط اللازمة لضخ الأموال بغرض الاستثمار والاستهلاك، هو من المحددات التي سترسم شكل الانتخابات في حال حدوثها. تضاف إليها ملامح عودة السياسة الأميركية إلى ما قبل عهد "ترامب"، وبما يعني تكوين رؤية ديمقراطية جديدة في عهد "بايدن" لا تعادي الفلسطينيين على نحو فجّ، إنما تحقن مسألتهم بسياسات خارجية تتسم بالبرود واللاعنف وإطالة فكرة التماس غير المباشر.
أما "حماس"، فهي تعتقد أن الانتخابات فرصة لتحقيق غايتين: أولاهما، تخليصها من عبء السكان، وحقوقهم المطلبيّة. وثانياً، إعادة تأهيلها كجزء من النظام السياسي الرسمي عبر إقناع حلفائها وممُوليها لها بأنها لن تستطيع الاستمرار دون الانتخابات.
المحاصصة بوصفها فكرة للتداول الشعبي في مكيدة الإجماع على رفضها، ليست إلا تحصيلاً حاصلاً بغير الانتخابات، وبحصولها تُمنح صكوكاً سياسية وأسهماً تنظيمية لإسباغ الشرعية عليها. ولما كانت لا تمنح من هم في الشتات حقهم في التصويت على سلطة لا تدير شؤونهم، فهل هذا الوجود الفلسطيني اللاغي/المُلغى سيصوّت على معنى هذا التمثيل بالنسبة إليه محمولاً على سؤال قضية تحرير أم عودة أم "حل عادل"؟ وهل ستسمح "إسرائيل" بإجراء انتخابات داخل "القدس العاصمة" أم أنها ستوافق عليها بالاقتراع الإلكتروني سريع الوصول إلى الدولة المنجزة على الورق في "رام الله"؟
الفَلَسْطَنة الناقصة اجتزاء هُويّاتي، وتعبير -لا إرادوي- عن غياب الإرادة الحقيقية لإنجاز تمثيل سياسي يمكن التعويل عليه. ولذا تبدو الانتخابات مثل قفزات قلقة، بعيدة عن "الشارع" وتحولاته في قضية التمثيل. إذ يغيب عنها الحضور الشاخص للحركة الوطنية، وتغيب الدلالات السياسية وانعكاساتها عن معاني هذا التحوّل منذ الانتخابات الماضية، وضغوطات الواقع الجديد.
ولعلّ الانتخابات بوصفها انتخابات لم تعد حلاً؛ على العكس: هي المشكلة. ليس لأنها تجري "تحت الاحتلال"، بل لأنّ دورها أن تبقى تحته!