بلغت نسب تسجيل الناخبين الراغبين في المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية 93% من مجمل أصحاب الحق في الاقتراع، ما يؤشر على مدى الاهتمام الشعبي بالعملية الانتخابية، وربما مدى تعويل الشارع الفلسطيني في مناطق السلطة على الانتخابات. بيد أن مشاركة الناخب النظرية مختلفة تماماً عن واقع مشاركته العملية، التي حاول المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية رصدها من خلال استطلاع رأي رقم (79)، نُفِّذ بين 14-19 من شهر آذار الفائت، أي قبل توضّح صورة القوائم الانتخابية وقبل معرفة برامج هذه القوائم، لكن وعلى الرغم من أهمية هذا الاستطلاع، إلا أنه لا يعكس توجهات الشارع ورغباته الحالية بدقة كبيرة.
إذ تسارعت الأحداث الفلسطينية الداخلية منذ 19 مارس/ آذار حتى اليوم، مثل إعلان جميع القوائم الانتخابية، ولا سيما قائمتا فتح وحماس، وتشكيل قائمة انتخابية مشتركة بين ناصر القدوة ومروان البرغوثي، دون مشاركة مروان فيها، ما يفتح الباب أمام ترشح مروان للانتخابات الرئاسية، وكذلك بما يخص بعض تصريحات ناصر القدوة الخلافية المناهضة لما سماه "الإسلاموية السياسية"، التي دفعت مقربين من مروان إلى توضيح رفضه لها، وعدم توافقه مع خيارات ناصر ونهجه، رغم تشاركهم القائمة الانتخابية، فضلاً عن حالة الجدل والغضب التي خلفتها تلك التصريحات في الوسط السياسي الفصائلي والشعبي على حد سواء. وهي عوامل هامة ومؤثرة قد تلعب دوراً في رفع نسبة التصويت أو خفضها، كذلك قد تلعب دوراً في ترجيح كفة هذه القائمة على حساب تلك.
لكن بغض النظر عن التطورات الحاصلة والتي ستحصل حتى موعد الانتخابات، هناك بعض المؤشرات المهمة التي تضمّنها الاستطلاع والتي تستحق تسليط الضوء عليها، مثل قناعة 48% من العيّنة بأننا مقبلون على انتخابات غير نزيهة وحرة، بالإضافة إلى قناعة 69% منهم بعدم اعتراف فتح بنتيجة الانتخابات في حال فوز حماس بها، في مقابل قناعة 60% منهم برفض حماس الاعتراف بنتيجتها في حال فوز فتح. حيث توضح هذه الأرقام حجم الأزمة وانعدام الثقة المتبادل بين كلا التنظيمين المسيطرين على زمام الأمور سلطوياً من ناحية أولى، وفقدان ثقة رهيب بين الشارع والجسم السياسي الفلسطيني عامة.
طبعاً، لا تتناقض نتائج الاستطلاع مع ارتفاع نسبة الناخبين المسجلين، بل على العكس تعكس حجم الغضب والسخط الشعبي على مجمل الجسم السياسي الفلسطيني الرسمي بفصائله وقواها المنضوية في منظمة التحرير والفاعلة من خارجها، ولا سيما حركة حماس، وعلى مكوناته غير الرسمية المتمثلة ببعض التجمعات ذات النشاط السياسي أو الاحتجاجي الناشطة في مناطق السلطة، مثل الملتقى الوطني الديمقراطي والمبادرة وعشرات القوائم المشاركة في العملية الانتخابية، وبعض المبادرات الجهوية والعشائرية، وغيرها من القوائم المحدثة. حيث ذهبت عدة تحليلات واستطلاعات سابقة إلى التأكيد أن طبيعة المشاركة الشعبية المحتملة تتمثل بميل شعبي نحو معاقبة فتح وحماس انتخابياً، غير أن العقاب الانتخابي يتطلب خياراً بديلاً، ولو بحده الأدنى، وهو ما لم تسفر عنه القوائم الانتخابية، حتى بعد مشاركة مروان. إذ ينبئنا ذات الاستطلاع عن حصول قائمة مروان في حال تشكيله قائمة بشكل مستقل عن قائمة فتح على 28% من مجمل الأصوات المشاركة، مقابل حصول فتح على 20% فقط منهم. أما في حالة دعم مروان لقائمة ناصر القدوة (دون تبيان طبيعة الدعم، بالمشاركة أو سياسياً وإعلامياً فقط)، فقد تحصل قائمة ناصر على 11% فقط من مجمل الأصوات مقابل 28% لصالح قائمة فتح.
وهو ما يؤشر على اختلاف واضح بين منحى الانتخابات الماضية في الـ 2006، وبين منحاها اليوم. فسابقاً كان التصويت لحماس شكلاً من أشكال معاقبة فتح، في حين اليوم هناك ميل لعقاب كلا التنظيمين، بل وربما مجمل مكونات الجسم السياسي الفلسطيني، الأمر الذي يتطلب خياراً بديلاً، يبدو أنه مفقود في ظل مجمل القوائم المشكلة والمتنافسة من قوائم السيار التائه والفاقد لذاته وكينونته، إلى القوائم المنبثقة من فتح والدائرة في ذات مشاكل فتح، مروراً بحماس ذات البنية التنظيمية الأمتن والأقوى حتى اللحظة. وعليه، ورغم تسجيل 93% من الأصوات التي يحق لها الانتخاب، إلا أن احتمالات التمنع عن المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي عبر المقاطعة أو الورقة البيضاء أو الورقة الملغاة، ذات وجاهة مقنعة، وأجدها الخيار الأفضل اليوم، في ظل تعذر تشكيل بديل وطني حقيقي قائم على ثوابت القضية الأساسية ومرتكزاتها الصلبة القائمة على وحدة الشعب والأرض والقضية، كذلك أجده خياراً ملهماً وداعماً لجهود التغيير الحقيق والجذري، فهل يحصل ذلك حقاً؟ أم قد نشهد هروباً رسمياً من هذا الاختبار عبر تأجيل قصير الأمد أو طويل يوحي بإلغاء الانتخابات كلياً!