الانتخابات الرئاسية والتشريعية هي حدث العام الحالي في تركيا، الذي سيحدد مسارات تطور هذا البلد في المرحلة المقبلة، محلياً وإقليمياً ودولياً. وأكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمس الأحد، إجراء الانتخابات في 14 مايو/ أيار المقبل، أي بعد انتهاء عطلة عيد الفطر بأكثر من أسبوعين.
وقال أردوغان، خلال لقاء مع شباب في مدينة بورصة (غرب) نشرت الرئاسة التركية تسجيل فيديو منه: "سأستخدم صلاحياتي لتقديم موعد الانتخابات إلى 14 مايو". وأشار إلى أنها "ليست انتخابات مبكرة (...) إنما هذا تعديل لأخذ (تاريخ) امتحانات (الجامعات) بالاعتبار".
وفي حين تتطلب الانتخابات المبكرة أكثرية برلمانية للتصويت عليها، لا يستدعي تقديم موعد الانتخابات سوى التحكّم بالمدة الزمنية.
من غير المحسوم حتى الآن من سيكون منافس أردوغان الرئيسي من بين قوى المعارضة
تقديم موعد الانتخابات يناسب الجميع
تقديم موعد الانتخابات يناسب كافة الأطراف، التي ترى أن إجراءها في أوقات لا تتقاطع مع الأعياد والإجازات، يوفر فرصة تنافس على قدم المساواة، ويناسب حسابات الحكم والمعارضة، اللذين يفضّلان عودة دورة العمل إلى إيقاعها الاعتيادي بعد الأعياد والإجازات والامتحانات، ويصبح أمام المرشحين الوقت الكافي من أجل القيام بالدعاية الانتخابية.
تحديد التاريخ المناسب للانتخابات نقطة مهمة جداً بالنسبة للأطراف المتنافسة كافة، لأنها على أساسه سوف تبني استراتيجيتها لخوض المعركة، التي توحي بأنها ستكون ساخنة أكثر من أي مواجهة حصلت بين حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عشرين عاماً، وبين المعارضة التي وحّدت صفوفها في تكتل كبير.
مرشحون لمواجهة أردوغان
المعركة الأهم هي الانتخابات الرئاسية، التي من المحسوم فيها أن أردوغان سوف يكون مرشحاً لخلافة نفسه، لكن من غير المحسوم حتى الآن من سيكون منافسه الرئيسي من بين قوى المعارضة. وهناك شخصيات عدة تطرح نفسها، ولكن ثلاثة منها تبدو أكثر حظوظاً.
الأول هو رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو، والثاني هو رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو الذي هزم في العام 2019 مرشح "العدالة والتنمية" وفاز ببلدية إسطنبول، والثالث هو رئيس بلدية العاصمة أنقرة منصور يافاش.
وعلى الرغم من أن الثلاثة ينتمون إلى حزب واحد، فإن كلاً منهم يجد نفسه المؤهل لخوض المنافسة مع أردوغان. والموقف المعروف عن رئيس الحزب، حتى الآن هو عدم الموافقة على ترشح رئيسي بلديتي إسطنبول وأنقرة، وهو يميل إلى استمرارهما في موقعيهما، نظراً لما يشكله ذلك من مكاسب للحزب على المدى البعيد.
وثمة تأكيدات بأن بعض زعماء المعارضة الآخرين، سوف يتقدمون للسباق الانتخابي، وخصوصاً زعيم حزب الديمقراطية والتقدم علي باباجان، وهو اقتصادي معروف منشق عن "العدالة والتنمية"، وسبق له أن شغل موقع نائب رئيس مجلس الوزراء في حكومة "العدالة والتنمية". وشأنه شأن زعيم حزب المستقبل رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، لم يشكل حالة قادرة على استقطاب جمهور واسع من "العدالة والتنمية".
تطمح المعارضة إلى تحقيق تقدم كبير ضد التحالف الحاكم على المستويين التشريعي والرئاسي
تطمح المعارضة إلى تحقيق تقدم كبير ضد التحالف الحاكم على المستويين التشريعي والرئاسي. وترى أوساط المعارضة أن الفرصة سانحة للمنافسة في الساحة البرلمانية، وهناك تقديرات تؤكد أن "العدالة والتنمية" لم يعد بذات الزخم الذي كان عليه في الدورات السابقة، بل تراجع رصيده الشعبي.
سيناريو الانتخابات البلدية مرشح للتكرار
خسارة "العدالة والتنمية" بعض الدوائر الانتخابية احتمال وارد إلى حد كبير، وهناك من يقيس على الانتخابات البلدية في عام 2019، حين فشل الحزب بالاحتفاظ بالمدن الرئيسية، خصوصاً أنقرة وإسطنبول. وتعتقد أوساط إعلامية أن سيناريو الانتخابات البلدية مرشح لأن يتكرر، وإن كان بدرجة أقل.
تشكّل كل من إسطنبول وأنقرة ثلاث دوائر انتخابية وإزمير دائرتين، وهذا ثقل انتخابي كبير يؤثر في توجيه التصويت، في حين أن حزبي "المستقبل" و"الديمقراطية والتقدم" اللذين تشكّلا على ضفاف "العدالة والتنمية"، يمكن أن يؤثرا سلباً على توجه أصوات الناخبين لهذا الحزب، وتشتيت أصوات الكتلة الكبيرة التي كانت تصوت تقليدياً لـ"العدالة والتنمية"، الذي بقي يحتفظ بالأكثرية البرلمانية حتى عام 2015.
ومن المرجح أن تتغير تركيبة البرلمان المقبل، الذي يمتلك فيه حالياً التحالف بين "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية" 360 مقعداً من أصل 600. وتبعاً لذلك ستتغير تركيبة الحكومة، وسيلعب البرلمان دوراً مختلفاً عن الدورات السابقة. وستتشكل بذلك معارضة حكومية وبرلمانية، يكون في مقدورها أن تؤثر على اتجاهات السياستين الداخلية والخارجية، وتحد من نفوذ التحالف الحاكم، وتقيّد صلاحيات رئيس الجمهورية.
المنافسة منصبة على الانتخابات الرئاسية
ثمة ملفات داخلية وخارجية تشكل محاور أساسية في الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة للتشريعية، فإن المنافسة منصبة أكثر على الرئاسية، وتنتظر أردوغان معركة فعلية، وسط تقديرات بتراجع شعبيته في الولاية الحالية التي حصل عليها في يونيو/جزيران 2018، بعد تعديلات على الدستور في عام 2017، والتي شملت استبدال النظام البرلماني بالرئاسي.
إحدى أهم المزايا التي يتمتع بها أردوغان هي أنه يحظى بدعم كتلة وازنة محددة من الناخبين، وهذا أمر لا يتوافر في أي من المرشحين المنافسين بمفرده، إلا أن هذا سلاح يمكن أن يستخدم ضده إذا لم تُحسم المنافسة في الجولة الأولى، فساعتها سيواجه رصيد المعارضة مجتمعة في الجولة الثانية.
الاقتصاد أهم ناخب
على المستوى الداخلي يشكّل الاقتصاد أهم ناخب، ويمكن أن يلعب ضد أردوغان ومعه في ذات الوقت. فمن ناحية بلغ التضخم نسبة غير مسبوقة في ولايته الحالية، ووصل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 85 في المائة، وأدى ذلك إلى ارتفاع كبير في الأسعار وتدهور العملة المحلية، ومن ناحية أخرى شهدت الحركة التجارية مع الخارج انتعاشاً كبيراً، ونما الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بوتيرة جيدة.
استطاع أردوغان أن يفتح أمام تركيا أسواقاً واسعة، وخاصة التصدير نحو العالم العربي الذي بلغ ثلث صادرات تركيا الخارجية في العام الماضي، أي ما يعادل 34 مليار دولار. واستطاع أن يجتذب استثمارات كثيرة من الدول العربية التي تلعب دوراً مؤثراً في الاقتصاد التركي، لأن حكم "العدالة والتنمية" شهد انفتاحاً واسعاً على العالم العربي لم يسبق له أن حصل في عهد الحكومات التركية السابقة.
يشكّل الاقتصاد أهم ناخب، ويمكن أن يلعب ضد أردوغان ومعه في ذات الوقت
الأوراق الأخرى مثار المنافسة تتلخص في الوضع في سورية، والحرب الروسية على أوكرانيا، وتطبيع العلاقات مع كل من السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل، بالإضافة إلى الحرب في أذربيجان، والمشاركة في النزاع الليبي، والعلاقة مع إيران.
الحملة الانتخابية الفعلية ستنطلق في 10 مارس/آذار المقبل خلال شهر رمضان، الذي سيكون بطعم سياسي هذا العام، وعلى حزب العدالة والتنمية وحليفه "الحركة القومية" بزعامة دولت بهجلي، أن يتمتعا بأداء يساعدهما على الاحتفاظ بأكثرية في مجلس النواب، ليس أقل مما هما عليه اليوم، وهو 334 من أصل 600 نائب.
هذه الجولة هي الامتحان الفعلي لأردوغان، الذي لا يحظى بتأييد غربي، بل هو على خلاف مع الولايات المتحدة وأوروبا، وهناك من يراهن من بين الغربيين على أن تضع الانتخابات نهاية لعهد أردوغان. وإن كانت لم تصدر مواقف علنية في هذا الصدد حتى الآن، كي لا يتهم أحد بالتدخل في شؤون تركيا الداخلية، فإن وسائل الإعلام الغربية تشن هجوماً لا ينقطع على الرئيس التركي.
وبناء على النتائج سيتحدد مستقبل علاقات تركيا الخارجية في حال خسارة أردوغان أو فوزه. وإذا ما ربح هذه الجولة فإنه سيعود أكثر قوة وإصراراً على السير في سياساته الحالية، وفي حال الخسارة سوف تتغير السياسة الخارجية التركية إلى حد كبير، وستجري عملية مراجعة لكثير من المواقف والخطوات المحسوبة على أسلوب أردوغان في إدارة الدولة.
والطرفان اللذان يراقبان أكثر من غيرهما الحدث التركي هما روسيا والولايات المتحدة، باعتبارهما المعنيين أكثر من بقية دول العالم بمستقبل هذا البلد ودوره الإقليمي والدولي. ومن دون شك تتأثر روسيا سلباً أو إيجاباً بالنتائج التي سوف يحصل عليها أردوغان، ولذلك تتحدث بعض وسائل الإعلام الروسية صراحة عن "العامل الروسي" ودوره في الانتخابات التركية.
ويدرك أردوغان هذه المسألة جيداً، ولذلك حاول أن يطبّع علاقاته مع المحيط الإقليمي، وأن ينتهج سياسة متوازنة في الحرب الروسية على أوكرانيا، وبذلك اتخذ سلسلة من المواقف والمبادرات في تأييد أوكرانيا، التي تبعده عن تأييد موقف موسكو، التي لم ينخرط في العقوبات الغربية عليها، ولم يتبن مواقف حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تعد تركيا أحد دوله الرئيسية.