كثفت الطائرات الحربية الروسية أخيراً من طلعاتها الجوية فوق قاعدة التنف العسكرية الأميركية شرقي سورية، لتغدو شبه يومية خلال مارس/ آذار الحالي، وهو ما ينتهك الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الجانبين عام 2019، وينذر بالتصعيد المتبادل.
وكانت الولايات المتحدة وروسيا قد اتفقتا عام 2019 على وضع قواعد لتحليق طائراتهما في الأجواء السورية، بغية تجنب المواجهات غير المقصودة. واتفق الجانبان على أن التحليق المباشر فوق مواقع كل منهما على الأرض، خاصة إذا كانت الطائرات المسلحة، أمر غير مقبول.
وقال قائد القوات الجوية في القيادة المركزية الأميركية أليكسوس غرينكويتش، لشبكة "أن بي سي" الأميركية، أول من أمس الخميس، إن آخر تحليق روسي فوق قاعدة التنف كان الأربعاء الماضي. وأشار إلى أن الطائرات الروسية انتهكت المجال الجوي للقاعدة نحو 25 مرة خلال الشهر الحالي، بينما لم يحدث أي انتهاك خلال فبراير/ شباط الماضي، مقابل 14 انتهاكاً في يناير/ كانون الثاني الماضي.
وأوضح غرينكويتش أن الطائرات الروسية تحلق فوق القاعدة بشكل منخفض، على مسافة نحو 1.6 كيلومتر من الأرض، ما يخلق وضعاً "غير مريح"، وفق تعبيره.
أحمد بري: التحرشات رسالة للولايات المتحدة وإسرائيل، بأن بوسع روسيا الرد على التصعيد الإسرائيلي ضد النظام وإيران
وأشار إلى أن من بين الطائرات الروسية التي تحلق فوق القاعدة الأميركية مقاتلات "سوخوي 34"، وبعضها يحمل صواريخ جو ــ جو، أو جو ــ أرض، وقنابل وصواريخ موجهة بالرادار والأشعة تحت الحمراء.
واستبعد غرينكويتش أن يكون لدى الروس أي حافز لاستخدام الأسلحة ضد الجيش الأميركي في سورية، لكن ما يحصل "يزيد فقط من خطر سوء التقدير". وقدم مثالاً حادثة البحر الأسود الأسبوع الماضي، حيث حلقت مقاتلتان روسيتان من طراز "سوخوي 27" قرب طائرة أميركية من دون طيار وألقتا الوقود عليها، واصطدمت إحداهما بها، لتسقط الطائرة الأميركية في النهاية في البحر.
لا اعتراف روسياً بالمجال الجوي للتنف
ورغم أن الجيش الأميركي استخدم الخط الساخن بين الجانبين للاحتجاج على السلوك الروسي فوق قاعدة التنف، لكن ذلك لم يكن مفيداً. وقال غرينكويتش إنه خلال المكالمات، أبلغ الروس الولايات المتحدة أنهم لا يعترفون بكل المجال الجوي فوق التنف، كمجال أميركي.
ولفت إلى أن الروس يتخذون موقفاً أكثر عدوانية تجاه الوجود العسكري الأميركي في سورية، بالرغم من وجود عدو مفترض مشترك لهما هناك، وهو تنظيم "داعش". ولم يستبعد المسؤول الأميركي أن تتدهور الأمور نحو الأسوأ، في حال كان هناك رد أميركي على هذه الاستفزازات الروسية.
ضغط روسي لتغيير قواعد الاشتباك
وفي 16 الشهر الحالي، قال قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال مايكل إريك كوريلا "إن الطائرات الروسية حلقت فوق قواعد أميركية في سورية في محاولة منها للاستفزاز"، واضعاً ذلك في إطار محاولة الروس "إعادة التفاوض بشأن قواعد الاشتباك التي يخرقونها كل يوم".
واعتبر وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، خلال مؤتمر صحافي في 15 الشهر الحالي، أن الولايات المتحدة تشهد "نمطاً عدوانياً ومليئاً بالمخاطر، من الطيارين الروس في الأجواء الدولية"، وذلك في تعليقه على حادثة البحر الأسود.
من جهته، قال رئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي إن بلاده تعمل على "تحليل أنماط السلوك الروسي لكي تتمكن من تحديد الخطوة التالية". وأشار إلى أن السلوك الروسي لا يتعلق بالولايات المتحدة فقط، بل أيضاً ببريطانيا ودول أخرى.
وتنشر الولايات المتحدة نحو 900 جندي في سورية ضمن عدة قواعد عسكرية، أبرزها في التنف، وحقل العمر النفطي، وذلك للمشاركة في محاربة تنظيم "داعش" كما تقول. وكثيراً ما تتعرض هذه القواعد لهجمات عبر طائرات مسيرة، أو ضربات صاروخية، يعتقد أن إيران والمليشيات التي تدعمها في سورية هي من تقف خلفها، وكان آخرها في 13 الشهر الحالي، حين استهدفت قاعدة حقل العمر بصاروخين.
حوادث سابقة
غير أن الاستهداف الروسي الأوضح لقاعدة التنف كان في 16 يونيو/ حزيران الماضي، عندما قصفت طائرات روسية محيط القاعدة حيث تنتشر قوات فصيل سوري مدعوم من الولايات المتحدة، وهو "جيش سورية الحرة" (جيش مغاوير الثورة سابقاً)، في خطوة اعتبر مسؤولون أميركيون أن موسكو تريد من ورائها "بعث رسالة" إلى الجانب الأميركي.
ورغم أن الهجمات لم تتسبب بوقوع إصابات، لأن الروس حذروا الأميركيين منها مسبقاً، وبادر الأميركيون إلى تحذير حلفائهم المحليين، لكنها كانت تشير إلى امتعاض روسي من الدعم الأميركي للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ضد القوات الروسية، وفق شبكة "سي أن أن" التي نقلت حينذاك عن مسؤولين عسكريين أميركيين قولهم إن "الضربات الجوية الروسية محسوبة للغاية، حيث تأتي عندما تتصاعد التوترات بين واشنطن وموسكو بسبب الحرب في أوكرانيا". واعتبر أحدهم أن الروس حققوا هدفهم المتمثل في بعث رسالة إلى الولايات المتحدة، مفادها بأن "بإمكانهم الهجوم دون القلق من الانتقام".
وعلى الرغم من أن الهجوم نادر الحدوث، لكنه ليس الأول من نوعه. ففي فبراير/ شباط 2018 قتلت القوات الأميركية متعاقدين روساً ضمن مرتزقة "فاغنر" ومليشيا موالية للنظام السوري بالقرب من دير الزور، عندما حاولوا التقدم باتجاه مناطق سيطرة القوات الأميركية. كما أصيب عدد من الجنود الأميركيين خلال تصادم مع رتل عسكري روسي شرقي سورية، في أغسطس/ آب 2020.
"رد معروف" روسي لإيران والنظام
ورأى رئيس أركان "الجيش الحر" سابقاً أحمد بري أن روسيا تحاول بهذه التحرشات للقواعد الأميركية شرقي سورية "رد المعروف" لإيران والنظام السوري بسبب وقوفهما إلى جانبها في حرب أوكرانيا، بل وتوريطها لهما بالانخراط الفعلي في هذه الحرب. كما أن هذه التحرشات هي رسالة للولايات المتحدة وإسرائيل، بأن بوسع روسيا الرد على التصعيد الإسرائيلي ضد النظام وإيران.
محمد جزار: من المعتقد أن الولايات المتحدة تحتفظ بقاعدة التنف كورقة نفوذ في المفاوضات المحتملة حول مستقبل سورية
واعتبر بري، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن روسيا ربما تكون انخرطت في المحاولات والضغوط التي يقوم بها النظام وإيران لدفع الولايات المتحدة للخروج من سورية، استكمالاً لما تقوم به إيران ومليشياتها من هجمات صاروخية، أو عبر المسيرات على القواعد الأميركية في شرقي البلاد، خاصة وسط تصاعد بعض الأصوات داخل الولايات المتحدة الداعية إلى سحب القوات الأميركية من سورية.
وأضاف: تعتقد موسكو أن زيادة الضغوط على هذه القوات، وفتح إمكانية تورطها في صدامات عسكرية، سواء مع قوات النظام أو إيران ومليشياتها، أو حتى القوات الروسية، يمكن أن يعطي زخماً قوياً لهذه الأصوات.
ورأى أن ما يجري في شرقي سورية قد يكون رسالة أيضاً لواشنطن بأن مزيداً من الدعم الغربي، الأميركي والبريطاني بشكل خاص، للحكم في أوكرانيا، قد يعني نقل المواجهة إلى ساحات أخرى، وفي مقدمتها الساحة السورية، حيث لهذه القوى وجود ملموس على الأرض، وفي السماء.
قاعدة التنف: ورقة أميركية
تقع التنف عند المثلث الحدودي بين سورية والعراق والأردن، وأيضاً على الطريق السريع بين دمشق وبغداد، وتعتبر من أبرز القواعد العسكرية الأميركية في سورية، وسبق أن زارها قادة عسكريون كبار، أبرزهم ميلي مطلع الشهر الحالي.
وأنشأت الولايات المتحدة القاعدة عام 2016 عند تقاطع الحدود السورية مع الأردن والعراق، وهي تضم وفق مصادر أميركية ما بين 100 و200 عسكري أميركي، إلا أن هناك تقارير تشير إلى أعداد أكبر، إضافة إلى وجود جنود بريطانيين ومن دول أخرى مُشاركة بالتحالف.
وقال المحلل السياسي محمد جزار، لـ"العربي الجديد"، إنه بالرغم مما تقوله الولايات المتحدة بأن وظيفة القاعدة هي خدمة الحرب ضد تنظيم "داعش" وإعاقة أنشطة وكلاء إيران في سورية، لكن من المعتقد أن الولايات المتحدة تحتفظ بها أيضاً كورقة نفوذ في المفاوضات المحتملة حول مستقبل سورية.
وأضاف جزار أن القواعد التي فرضتها الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية والمتمثلة في منع الاقتراب من "حرم القاعدة"، أو ما سمي منطقة عازلة يبلغ قطرها 55 كيلومتراً تشكلت في إطار تفاهم أميركي روسي عام 2016، غير أن موسكو حاولت مراراً خرق هذه التفاهمات، سواء عبر قواتها وطائراتها، أم من خلال تشجيع قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية على محاولات التقدم باتجاه المنطقة، لكنها كانت تواجه برد من قبل القوات الأميركية.
صراع على مناطق شرق سورية
من جهته، قال الناشط أبو عمر البوكمالي إن مناطق شرق سورية تشهد صراعاً على النفوذ بين قوى مختلفة، في مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا.
وأضاف في حديث مع "العربي الجديد" أن القوتين تحاولان كسب المجتمع المحلي من أجل تعزيز نفوذهما على الأرض، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة كانت سباقة لكسب مواقع على الأرض في شرقي سورية، بسبب ما تزخر به المنطقة من ثروات باطنية ومحاصيل استراتيجية، فضلاً عن كونها الممر الإجباري للتواصل البري بين سورية من جهة، والعراق وإيران من جهة أخرى.
وأوضح البوكمالي أن القوات الروسية تحاول منذ سنوات استدراك تأخرها في شرقي سورية من خلال الاستيلاء على مطار القامشلي الذي حولته إلى قاعدة عسكرية لها في المنطقة، وزودته بمنظومات للدفاع الجوي، إضافة للدخول إلى عين العرب ومناطق في الحسكة، غير أن الولايات المتحدة تدرك أهمية المنطقة، وتواصل منع النظام وروسيا وإيران من الاستفادة منها.
ووفق خريطة لقواعد ونقاط وجود روسيا في سورية نشرها مركز "جسور" للدراسات، توجد القوات الروسية في 15 نقطة أساسية في شمال شرقي سورية، أهمها في مدينة عين عيسى بريف الرقة الشمالي، وتل تمر ومطار القامشلي ومدينة عامودا في محافظة الحسكة.