الاتحاد الأوروبي وأثمان سياساته العرجاء في فلسطين والمنطقة

07 اغسطس 2024
اجتماع سابق لقادة الاتحاد الأوروبي، 17 يونيو 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تردد أوروبا في اتخاذ مواقف حاسمة**: رغم مرور ستة أشهر على عملية أسبيدس، تواصل أوروبا ترددها في اتخاذ مواقف حاسمة لوقف الحرب على غزة، مما يعكس ازدواجية في التعامل مع الحالة الفلسطينية.

- **انقسام وعجز أوروبا**: تتخذ بروكسل وواشنطن مواقف مائعة، مما يشجع على المزيد من العنف، وتظهر أوروبا منقسمة وعاجزة عن التأثير في قرارات محكمتي العدل والجنائية الدوليتين.

- **عواقب سلبية على مصالح أوروبا**: انقسام أوروبا وتهميش نفسها في منطقة حيوية يساهم في تدمير استراتيجيتها، ويؤدي إلى خسارة المصداقية والثقة بالسياسات الأوروبية، مما يضع مصالحها في مهب رياح قوى إقليمية مثل الصين وروسيا.

بعد ستة أشهر من انخراط الاتحاد الأوروبي في عملية أسبيدس لحماية خطوط الإمداد عبر باب المندب والبحر الأحمر، تواصل القارة ترددها في الحضور واتخاذ مواقف ضاغطة لوقف الحرب على قطاع غزة، في منطقة حيوية لمصالحها. صحيح أن مقرر السياسات الخارجية السابق جوزيب بوريل رفع أخيراً نبرة الاعتراض على جرائم الاحتلال واستهداف المدنيين، لكن المجموعة الأوروبية ظلت جماعياً تتخذ مواقف عائمة وراء ستار "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، مع كل ما حمله ذلك من نسف لقوانين ومواثيق دولية، ودوس على القيم والمبادئ التي بدت نافرة الازدواجية والنفاق في التعامل مع الحالة الفلسطينية، تحت يافطة ذلك الحق المزيف للمستعمر.

أمام ناظري أوروبا، يتزايد عنف وإرهاب المستوطنين برعاية رسمية، ومقابله مواقف مائعة من بروكسل وواشنطن، ما يشجع على المزيد من العنف، بل حتى حين وصلت العربدة إلى مستوى تهديد مباشر للدول التي اعترفت بدولة فلسطين، النرويج وإسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا، بدا المعسكر الأوروبي حمائمياً بصورة معاكسة، لو أن مصدر التهديدات ليس صهيونياً. ومع أن الحرب على غزة وصلت إلى محكمتي العدل والجنائية الدوليتين، وسط تفاعل الشارع الأوروبي وقواه مع الحقوق الفلسطينية، ظهرت أوروبا منقسمة وعاجزة عن الحضور والتأثير وتأييد قراراتهما. بل أكثر من ذلك، استجابت بعض أوروبا سريعاً للدعوات الإسرائيلية ـ الأميركية لبناء تحالف بحري لمواجهة تحدي جماعة الحوثي.

وبعد نصف سنة على انخراط أوروبا في العملية البحرية أسبيدس؛ إيطالية القيادة ويونانية المقر، وإرسال فرقاطات بعد موافقة الاتحاد الأوروبي، يبدو تحقيق هدفها القاضي بـ"ردع الحوثي وتعزيز الأمن البحري وحرية مرور السفن التجارية" بعيد المنال. وبات يُنظر إلى التصرف الأوروبي كجزء من الحشد العسكري الأميركي ـ البريطاني في استهداف اليمن، والدفاع عن إسرائيل لاحقاً، بما ينسف حيادية القارة. إضافة إلى ذلك، وعلى مدار الأشهر الماضية، ظهر الاتحاد الأوروبي كفاعل سياسي أعرج وأبكم أمام هول جرائم الحرب والإبادة التي تجري في عمق جيوسياسي هام لقارتهم، وكذلك تماهيه مع اللاعب الأميركي في كذبة الخطوط الحمر، والضغط على الطرف الفلسطيني لمنح الاحتلال بالتفاوض ما لم يحققه عسكرياً.

عواقب سلبية على مصالح أوروبا

وعليه، فإن انقسام أوروبا وتهميش نفسها في منطقة حيوية لن تكون عواقبهما بسيطة. فقد ساهم بعض قادة أوروبا في تعميق الانقسام والسلبية، من خلال الانحياز التام لإسرائيل، كما فعل المستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وغيرهما في شمال وغرب القارة. صحيح أن سلبية القارة بشأن ما يجري في غزة ليست بمعزل عن سلبية السياسات الرسمية العربية، التي لم تمارس ضغطاً لا على بروكسل ولا على واشنطن لوقف الحرب، لكن مع ذلك تبقى مسألة الالتزام بالقوانين والمعاهدات الدولية غير ذي صلة بسلبية، وتخلف الحالة الرسمية العربية حتى عن تطبيق قرارات قمتها خريف العام الماضي في الرياض.

من بين عواقب السلبية الأوروبية حيال انتهاك كل القوانين الدولية في غزة، أن القارة تقوم بنفسها بتدمير استراتيجيتها التي باشرت بها بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عامين ونصف العام، وهي القائلة إنها ستكون أكثر تفهماً وانفتاحاً على عالم الجنوب، في مواجهة روسيا والصين. وفي السياق نفسه، وربطاً بالسرديات الأوروبية عن حقوق الإنسان والالتزام بالمواثيق والقوانين الدولية، باتت القارة فعلياً تخسر تفهم الشعوب لمصالحها، ذلك مع تزايد النفور من ازدواجيتها ونفاقها.

فبينما عبّرت أوروبا لفظياً عن رفض ممارسات التطرف الاستيطاني في الضفة الغربية، بقيت سلبية وغير مكترثة بتصريحات وقرارات قادة وساسة الاحتلال الضاربة بالقيم والمبادئ الإنسانية عرض الحائط. فكيف تتصرف أوروبا مع تصريحات وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش عن قتل مليوني فلسطيني بالتجويع؟ وكيف كانت ستتصرف لو أن سياسياً فلسطينياً طالب بقتل مليوني يهودي؟

وعلى مستوى المصداقية والثقة بالسياسات الأوروبية في المنطقة، يمكن أن تصبح الخسارة جدية. ففي حين تردد أوروبا التزامها بما يسمّى "حل الدولتين"، تقف في المقابل عاجزة أو غير راغبة في اتخاذ موقف يفرض عقوبات على إسرائيل، بعدما صوتت أغلبية في الكنيست ضد إقامة دولة فلسطينية، ما يجعل الاتحاد الأوروبي أكثر انكشافاً في ازدواجية معاييره أمام أجيال عربية جديدة. والسلبية نفسها يمكن ملاحظتها أمام عربدة التيار الديني-الصهيوني في الضفة الغربية، المتوعد بتهجير الفلسطينيين نحو الأردن، حيث تمضي بعض السياسات الأوروبية في مشاريع قوانين تحظر انتقاد الصهيونية بحجة مكافحة معاداة السامية، دون التفات إلى تأثيرات مستقبلية لحرب دموية تجرح وتقتل نحو 10% من الغزيين، أي في النسبة والتناسب نحو 600 ألف دنماركي، ومليون سويدي، وستة ملايين فرنسي، وثمانية ملايين ألماني.

على كل، لا عملية أسبيدس البحرية أنقذت الاحتلال، ولا أوروبا غيّرت الواقع في باب المندب والبحر الأحمر، لتجاهلها ارتباط المجريات بالحرب العدوانية على غزة، حيث لا تزال القارة تسير خلف ما تطرحه واشنطن وتل أبيب، وتردد البروباغندا الصهيونية في أكاذيب قطع الرؤوس وحرق الناس والاغتصاب، بينما من يحرق ويقطع رؤوساً ويغتصب هو جيش الاحتلال المنفلت من فاشيته. كذلك، تجد أوروبا نفسها بهذه السياسة في موقف صعب على المستويين المتوسط والبعيد بشأن علاقتها بشعوب المنطقة العربية، وعموم دول الجنوب، هذا إن واصلت سياساتها المتناقضة مع المبادئ العالمية وعدم النزول عن شجرة الاستعلائية والعقليات الاستعمارية، حتى في ما يتعلق بمعايير مزدوجة في قراءة لون وعرق ودين الضحايا. في نهاية المطاف، يبدو أن أوروبا بنفسها باتت أحد العوامل التي تضع مصالحها في مهب رياح صينية ـ روسية، وغيرهما من قوى إقليمية، تسارع إلى جني ثمار العطب السياسي والأخلاقي للقارة.