الإنفاق الدفاعي لـ"الأطلسي": اختلاف في الاستراتيجيا وفلسفة التوازن السياسي

14 ابريل 2019
"الأطلسي" ابتعد عن ميثاق الأمم المتحدة (فرانس برس)
+ الخط -
هيمن الالتزام بتخصيص نسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي لدول حلف شمال الأطلسي، على الذكرى السبعين لتأسيس الحلف في واشنطن الأسبوع الماضي، رغم التشكيك الدائم للولايات المتحدة في ذلك، وتأكيدات الأوروبيين بأنّ الإرادة قوية، إنما الميزانية ضعيفة. فهل من الممكن أن تؤثر لعبة الأرقام على علاقات دول "الأطلسي" مستقبلاً مع صعوبة تحقيق ذلك، لا سيما أنّ ما يتم تداوله من قبل الحلفاء هو التوجّه لزيادة نحو 100 مليار دولار على الإنفاق الدفاعي بحلول نهاية العام 2020؟

أمام هذا الواقع، تبرز التناقضات التي تعيشها دول الحلف نظراً لتضارب المصالح وترتيب الأولويات في ما بينها، والدليل أنّ جدول الأعمال في واشنطن لم يتضمّن سوى جوانب هامشية، في حين أُغفلت قضايا واضحة مثل التعامل الصعب مع روسيا والصين، ومستقبل المهمة في أفغانستان. في المقابل، لا يزال الرئيس الأميركي دونالد ترامب يؤكّد أنّ ألمانيا وجيرانها الأوروبيين يتجاهلون واجباتهم تجاه "الأطلسي"، وأنّ "الحماية الأميركية" لها أثمانها المادية،  وهو ما عاد واشتكى منه نائبه مايك بنس، أخيراً في واشنطن، عندما وجه سهامه بحدة صوب ألمانيا، من منطلق أنها لا تفعل الكثير وتنفق القليل من أجل أمن التحالف، في نسق ابتزازي شبيه بما يفعله مع السعودية مثلاً.

وتحتل الولايات المتحدة المركز الأول في نسبة الإنفاق العسكري بين دول الحلف الأطلسي، وتبلغ مساهمتها 3.5 في المائة من قيمة الناتج القومي الإجمالي، وتنفق أغلبية دول الحلف نسباً أقل من 2 في المائة، مع تعهّد بأن تصل إلى نسبة 2 في المائة بحلول عام 2024.
 
اختلاف المعايير بين أوروبا وأميركا
يعتبر خبراء في الشؤون الاستراتيجية الأوروبية أنّ الأمن لا يقاس فقط بالإنفاق الدفاعي، بما في ذلك سياسات التنمية أو المبادرات الدبلوماسية التي تمنع النزاعات. كذلك، يرى هؤلاء أنّ نسبة 2 في المائة هي نسبة قياسية سياسية، لا عسكرية، وهي لا تعتمد على فعالية واحتياجات هذا الحلف، ولكن على الناتج القومي الإجمالي. وعلى سبيل المثال، إنّ اليونان وعدداً قليلاً من الدول المنضوية ضمن حلف الأطلسي، تحقّق النسبة المطلوبة رغم أنّ أداءها الاقتصادي ضعيف. كذلك، فإنه يصعب حساب الإنفاق الدفاعي بشكل موحّد؛ فرنسا مثلاً تدفع ما مجموعه 24 في المائة من ميزانيتها الدفاعية على المعاشات التقاعدية، فيما أميركا لا تقدّم سوى القليل من ميزانية التسلّح الضخمة لديها للحلف. كما أن بعض البلدان تشمل ميزانيتها الدفاعية نفقات الشرطة، فيما ميزانيات دول أخرى لا تتضمنها هذه النفقات.

وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة "دير شبيغل" الألمانية أنّ "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" الأميركي، اقترح في تقريره العام الماضي، مجموعة من المعايير التي يمكن استخدامها لتقييم مساهمة الأعضاء في التحالف، بينها مثلاً الاستعداد والمشاركة الفعلية في عمليات الحلف ومناوراته. إلى ذلك، يمكن القول إنّ على الرئيس الأميركي العمل، في المقابل، على تحسين مساعدات التنمية في الدول الفقيرة، وليس فقط التركيز على استجداء المال من أوروبا، وهو الأمر الذي أثاره وزير التنمية والتطوير الألماني غيرد مولر، في يونيو/حزيران الماضي في برلين خلال انعقاد مؤتمر قمة مجموعة العشرين بالشراكة مع أفريقيا، مطالباً ترامب بصرف المزيد من الأموال على مساعدات التنمية التي يجب أن تصل إلى 0,7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب الأمم المتحدة. وقال مولر حينها: "أولئك الذين يدعون الدول الأوروبية للإيفاء بالتزاماتها المقررة بـ2 في المائة من الناتج المحلي على الجيش والدفاع، يجب عليهم صرف أموال التطوير في الدول النامية أولاً. الأميركيون لا يدفعون سوى 0,2 في المائة". وتحدّث الوزير عن دعم مالي ألماني إضافي بملايين اليوروات للدول التي تلتزم بمكافحة الفساد وحماية حقوق الإنسان وإدارة الضرائب في القارة الأفريقية.

وفي ما خصّ الميزانية الدفاعية للدول الأوروبية، لا تزال بعض دول "الأطلسي" بعيدة عن تقديم نسبة 2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2024 للإنفاق العسكري، وفق ما تم الاتفاق عليه في قمة ويلز عام 2014، لأن غالبيتها تعيش أزمات اقتصادية ومالية. ومن بين هذه الدول ألمانيا، التي ستتكفّل بنفقات إضافية للاتحاد الأوروبي مع خروج بريطانيا من الاتحاد، وهي ستزيد من إنفاقها الدفاعي للحلف بحلول عام 2024 إلى 1.5 في المائة فقط، لأنه وفق السياسات المالية الألمانية، هناك معايير للتخطيط المالي على المدى المتوسط لا يمكن تجاوزها، عدا عن أنّ الإنفاق الدفاعي تتم مقاربته في ألمانيا بشكل مختلف عن غيره من البلدان الأخرى.
 
طلب الإنفاق تعسفي وغير عقلاني
تعتزم ألمانيا تقديم المزيد من الأموال من أجل أمن أوروبا، وستزيد ميزانية الدفاع للعام المقبل بنسبة 4,5 في المائة، لتصل إلى 45,1 مليار يورو. إنما وبدءاً من العام 2021، يخطط وزير المالية أولاف شولز، وفق ما ذكرته "دير شبيغل"، لخفض الإنفاق مرة أخرى. وفي العام 2023، ستتمكّن برلين من إنفاق 1,23 في المائة فقط من ناتجها المحلي الإجمالي على الأطلسي، ما سيترجم بعدم تحقيق نسبة 1,5 في المائة، التي وعدت بها المستشارة أنجيلا ميركل، بحلول العام 2024. وعندها ستبقى ألمانيا بعيدة عن الهدف الذي حدده الحلفاء بالوصول إلى معيار 2 في المائة في العام 2024.

أمام هذا الواقع، لا يمكن تبديد الشكوك الأميركية في إمكانية الوصول إلى النسبة المئوية المطلوبة، خصوصاً أنه من الممكن أن تقع على عاتق تلك الدول مسؤولية التوضيح لمواطنيها عن سبب الحاجة إلى المزيد من دفع الأموال للدفاع، وليس لاسترضاء الرئيس الأميركي. لذلك، يرى العديد من الخبراء أنّ طلب الإنفاق تعسفي وغير عقلاني، لأنّ القرار الذي تمّ الاتفاق عليه عام 2014 وبيّنته التقارير، يتحدّث فقط عن التحرّك صوب تحقيق نسبة 2 في المائة، مع العلم، أنّ ألمانيا زادت ومنذ العام 2014 ما نسبته 40 في المائة من إنفاقها الدفاعي.
 
القواعد العسكرية تخدم المصالح الأميركية
لا يزال ما تمّ الكشف عنه أخيراً من قبل البيت الأبيض حول الخطة الجديدة التي يفكّر فيها ترامب بشأن زيادة نفقات الحلفاء من أجل الدفاع كشرط للحماية، خصوصاً في ما يتعلّق ببلدان توجَد فيها قواعد عسكرية أميركية، مثل ألمانيا وإيطاليا واليونان، محطّ جدل لدى وزارة الدفاع وقيادة الجيش الأميركي، لأن وجود هذه القواعد يخدم الأمن المشترك. ويجزم عدد من المسؤولين السياسيين في ألمانيا، أنّ ذلك يخدم المصالح الأميركية في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط، ويساهم في حمايتها وحلفائها، علماً أنّ ألمانيا تعتبر من أهم البلدان التي تنتشر فيها قواعد عسكرية أميركية في أوروبا، فضلاً عن أكثر من 33 ألف عسكري. وأهم هذه القواعد مركز أوروبا لسلاح الجو في رامشتاين بولاية راينلاند بفالس، والمستشفى الأميركي في مدينة لاندسهوت والذي يعدّ الأكبر خارج الولايات المتحدة.

وهنا يردّد هؤلاء المسؤولون كلام ميركل التي أكّدت العام الماضي في بروكسل، أنّ ألمانيا تقدّم الكثير للحلف الأطلسي، وبرلين ثاني أكبر المشاركين في الوحدات العسكرية، وتضع كل قدراتها بتصرّف الحلف. وهناك قناعة بأنّ العالم اليوم ليس أكثر أماناً مما كان عليه قبل 30 عاماً، وذلك في ظلّ التهديد الروسي والانتفاضة العسكرية للصين، وإعادة التسلّح في الشرق الأوسط ودول الأزمات في شمال أفريقيا، ومسرح الحرب الجديد في الفضاء الإلكتروني، وكل ذلك يهدد أمن أوروبا. علماً أنّ غالبية الدول الأوروبية لم تخف ضعفها في مجال الأمن والدفاع، بينها النمسا التي قال وزير دفاعها، ماريو كوناسيك، وفق صحيفة "دي فيلت" الألمانية، إنّ بلاده ليست لديها القدرة على الدفاع عن نفسها، والأمر نفسه قد ينطبق على ألمانيا، حيث تكشف التقارير كافة عن الضعف والإهمال وسوء الاستعداد العسكري في حالات الدفاع.
 
ترامب يغذي الأوهام
من جهة ثانية، يرى مراقبون أنّ حلف شمال الأطلسي وقع ضحية نجاحه، ولم تعد هناك ثقة بأنّه لا ينتج بذاته الأمن والاستقرار والتوازن، وأنّ ترامب يغذي فقط الأوهام، ويعمد إلى ارتجال السياسة الخارجية الأميركية عبر "تويتر" من البيت الأبيض، فيما الجميع متفق على أنّ ألمانيا مفتاح أوروبا، وعلى ما هو ثابت أنّ الردع الممتدّ من الولايات المتحدة إلى القارة العجوز هو الأساس المنطقي الاستراتيجي إلى جانب الإدارة العامة للصراع وفلسفة التوازن السياسي. وإذا لم يكن هناك ارتباط نشط من جانب الأميركيين للحماية إذا ما تعرضت أوروبا لأي خطر، فلن يكون الحلف أكثر من مجرّد تجمّع حاشد يضم قوى صاحبة نفوذ.

في المقابل، هناك من يعتبر من المحللين أنّ الحلف الأطلسي جعل العالم مسرحاً للحرب، وأنّ ألمانيا من الدول المشاركة التي تعمل على توفير الأسلحة والتكنولوجيا والجنود وزيادة وحداتها العسكرية في الخارج، وقد أنفقت مليارات اليوروات، إلى جانب تكبدها عدداً غير قليل من القتلى والجرحى في سبيل هذا المشروع. ويعتبر هؤلاء أنّ "الأطلسي" ابتعد عن ميثاق الأمم المتحدة، الشرعية الوحيدة التي تنطبق على الحلف، وما يشهد على ذلك هو خطاب الأمين العام ينس ستولتنبرغ، في واشنطن في احتفال الذكرى السبعين لتأسيس الحلف، والذي كان بعيداً كل البعد عن إرادة شعب أوروبا ويمثّل تهديداً للسلام الدولي. هناك، دعا ستولتنبرغ إلى زيادة الإنفاق العسكري، على أساس أنّ التوترات العالمية ستزداد. وقال: "نقاتل معاً، نقف معاً، ونموت معاً"، وهو ما اعتبره المحللون خطاباً تحريضياً.