مضى أسبوع على مجزرة مدينة بافالو في ولاية نيويورك الأميركية، التي ذهب ضحيتها 10 أبرياء من الأميركيين ذوي البشرة السوداء. الجريمة التي ارتكبها أحد العنصريين البيض، صنّفها الرئيس الأميركي جو بايدن في خانة "الإرهاب المحلي المستعصي".
وبات معلوماً أن القتل العشوائي مستوطن في الولايات المتحدة الأميركية، وأن عملياته شبه دورية، في مسلسل لا نهاية له.
وعلى الرغم من الوجع والضغوط والوعود بوجوب التصدي للأسباب، إلا أن وباء العنف بقي على وتيرته ببقاء ثنائي السلاح وكراهية الآخر على حاله، إذ إن الكونغرس لا يسمح بضبط السلاح، كذلك لم تحظ ثقافة التمييز بالمعالجة الجدّية الصحيحة، بل على العكس، أخذت شحنة زخم قوية في السنوات الأخيرة، وصارت المجاهرة بها أعلى من خلال الترويج لنظرية "المؤامرة لاستبدال البيض"، كما عبر الحقن "القومي الديني" لتأجيج التناحر مع الأقليات.
والأخطر في هذا الخطاب أن ترجمته صارت أشرس مع تزايد التوجس من "الغريب" الذي يجري تصويره بأنه يزحف نحو الاستيلاء على "أميركا المسيحية البيضاء"، حتى وإن كان أميركياً ومن ذات المعتقد.
مثل هذه الهواجس ليست جديدة، بل تعود إلى بدايات الهجرة، حتى الأوروبية. فالإيطالي، كما الإيرلندي واليوناني وغيرهم، لاقوا التمييز، وإن بدرجات. الذعر من "الآخَر" والتشكيك فيه، موروث "متأصل لدى المتعصب الأبيض"، بتعبير أحد الباحثين.
لذا، اعتاد أصحاب هذا الوسواس تخويف البيض العاديين بأن مَن ليسوا من أبناء جلدتهم يعتزمون الحلول محلهم.
التحذيرات بدأت منذ أوائل القرن الماضي عن "تناقص البيض". ظهرت كتب في هذا الموضوع وحركات تزعمها عنصريون مثل المحامي الشهير ماديسون غرانت في 1916 الذي نشط مع بعض رجال الكونغرس والقوى السياسية وأهل الرأي لإحباط أي مسعى يهدف إلى تحقيق المساواة بين الأعراق في الولايات المتحدة الأميركية. ومنهم من ذهب في التخويف إلى حدّ نشر البيانات عن "الإبادة الجماعية للبيض" لتحريك المعنيين ضد ما اعتبره بمثابة عملية "استبدال" للبيض. وقد تواصلت هذه النزعة إلى أن تكللت قبل حوالى 40 سنة بقانون يحدد كوتا المهاجرين.
بيد أن هذا الخطاب الذي توالى عبر حقبات التاريخ الأميركي اقتصر على قلة عنصرية متشددة بقيت هامشية، ولو أنها ضمت جهات وحركات سياسية، وأحياناً مسؤولين كباراً. أما الآن، فقد صار هذا التوجه يمثله تيار واسع ومستقوٍ، يرفده ويغذيه إعلام يميني منتشر ومركِّز في خطابه على التخويف من "الآخر"، إلى حد التحريض، بمؤازرة وسائل التواصل الاجتماعي.
والأهم أنه أخذ جرعة تجرّؤ قوية من رئاسة الرئيس السابق دونالد ترامب، كانت ذروتها في هجمة 6 يناير/كانون الثاني 2021 على مبنى الكونغرس. ومن هناك انضمت إلى الموجة أصوات وأعضاء من الجمهوريين في الكونغرس، ومن أصحاب بعض المنابر المؤثرة في خطاب يدمج الهويتين الأميركية والدينية لشد عصب البيض واستقطابهم إلى معسكر المحافظين من أجل كسب الانتخابات، وبالتالي التحكم بالتشريعات والقوانين التي تكفل وضع الولايات المتحدة الأميركية في هذا الخندق.
الدولة منفصلة عن الدين في الولايات المتحدة الأميركية، لكن السياسة عند الجمهوريين خصوصاً، توظف المعتقد. مثلاً، المرشح الجمهوري لحاكمية ولاية بنسلفانيا يقول في حملته الانتخابية إنه "مكلف مهمة إلهية!".
أحد القساوسة في ولاية تينيسي حذّر من أن "كل من ينتخب ديمقراطياً ليس مسيحياً!"، متوعداً بأن "التمرد أتٍ"، في إشارة إلى النية لتكرار اقتحام الكونغرس إذا لم تأتِ نتائج الانتخابات في مصلحة المحافظين.
وهذا احتمال حذر منه مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) وباقي الأجهزة الأمنية، خاصة أن السلاح موجود بوفرة لدى المتعصبين البيض الذين ألبسوا حملتهم ثوب الدين.
الولايات المتحدة التي تمثل 4 في المائة من سكان العالم، يمتلك سكانها 40 في المائة من السلاح الفردي، أي 393 مليون قطعة من مختلف الأحجام والقوة النارية المتوافرة في حوالى 53 ألف متجر لبيع السلاح، أو ما يعادل تقريباً أربعة أضعاف عدد مطاعم ماكدونالد الأوسع انتشاراً في أميركا.
الولايات المتحدة تعيش اليوم حرباً ثقافية بين مكوناتها. من جهة، أقليات حوالى 140 مليوناً متشبثة بزيادة مكاسبها ومشاركتها، ومن جهة ثانية، فريق مصرّ على "الأصلانية" (الأصل الأميركي القومي والديني) والأبوية والنزعة العسكرية.
خلطة الإيديولوجيا القومية ـ الدينية مع السلاح ونظرية المؤامرة، سريعة الالتهاب، الذي كان يناير 2021 "بروفا" له. القاتل في بافالو ابن هذه الخلطة. وبانتطار بافالو آخر كما جرت العادة.