اقتراب نهاية عهد ميركل: الألمان غير جاهزين لعالم متغيّر

26 يوليو 2021
كانت لميركل اليد الطولى في رسم أسس التعامل مع موجات اللجوء (ستيفاني لوس/فرانس برس)
+ الخط -

تخطو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، خطواتها الأخيرة في الحكم، بعد عقود في عالم السياسة الألمانية والأوروبية والدولية، منها أربع ولايات على رأس المستشارية، ما مكنها من نيل لقب أقوى النساء في العالم لسنوات عديدة. كما أطلق عليها لقب "المرأة الحديدية"، ولكن سهلة المراس، وهي التي تسلحت بالحكمة، وفق ما يرى كثيرون، والتي استثمرتها في تدوير الزوايا، وسط عالم مضطرب سياسياً وأمنياً واجتماعياً واقتصادياً، فنجحت في بعض الأمور وفشلت في أخرى. إلا أنّ ما يحسب للمستشارة، أنها وفي الأزمات الأوروبية والإقليمية والدولية، وبفعل مصداقيتها، كانت صمام أمان، ما أكسبها ثقة أهم الزعماء في العالم، من الرؤساء الأميركيين المتعاقبين، إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، إذ تمكنت من نسج علاقة صداقة مع أغلب القادة، وظفتها في تفكيك الكثير من الألغام السياسية في الأزمات والصراعات المستفحلة حول العالم، وبات لمصطلح "الوساطة الألمانية" وقع إيجابي لدى أطراف متنازعة عدة.

تمكنت ميركل من نسج علاقة صداقة مع أغلب قادة العالم

في ما يخصّ الوضع على الساحة الأوروبية، شهدت ميركل خلال ولاياتها العديد من الأزمات؛ أهمها أزمة اليورو وأزمة اللاجئين ووباء كورونا. وبحكم علاقتها الوطيدة مع زعماء الاتحاد الأوروبي، والمكانة التي تتمتع بها ألمانيا كدولة تمثّل قاطرة اقتصادية لأوروبا، تمكنت ميركل بدراية وواقعية مع زميلها في حزب "الاتحاد المسيحي الديمقراطي"، وزير المالية الاتحادي السابق، ورئيس البوندستاغ الحالي، فولفغانغ شويبله، من جدولة ديون اليونان، وفرض نوع من التقشف والعديد من الإصلاحات على أثينا، ما سمح للأخيرة بتجاوز أزمتها بدعم أوروبي، أنتج لاحقاً تخفيف العبء عن المفوضية الأوروبية. كذلك، يسجّل لألمانيا وتحديداً وزارة الخارجية الألمانية في عهد ميركل، لعبها دوراً مهماً خلال مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران.

وفي ملف اللجوء، كان لميركل اليد الطولى في رسم أسس التعامل مع موجات اللاجئين التي اجتاحت أوروبا ولا سيما في العام 2015. وتحت شعار "سوف ننجز ذلك"، استقبلت ألمانيا مئات الآلاف من اللاجئين، ودعمت باقي الدول الواقعة على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي التي كانت بوابة لدخول هؤلاء، وبينها اليونان وإيطاليا. إلا أنه يؤخذ على ميركل أنها لم تتمكن من إيجاد نهج أوروبي مشترك لسياسة اللجوء، وسيبقى ذلك بمثابة مشكلة لأوروبا، وفق ما أشار إليه مراسل شبكة "إيه آر دي" الإخبارية الألمانية في بروكسل ياكوب ماير، أخيراً.

وفي ما يخصّ العلاقة مع روسيا، تُبرز تقارير عدة، بينها لشبكة "بايريشيه روندفونك"، أنه كانت هناك أسباب كافية لميركل لرفع سقف خطابها بوجه بوتين مرات عديدة، مع توالد أزمة تلو الأخرى مع موسكو، من الحرب في جورجيا إلى ضم شبه جزيرة القرم والصراع في أوكرانيا، وهجمات القرصنة الروسية، واعتقال أشد المعارضين لبوتين، ألكسي نافالني. إلا أن براغماتية ميركل أبقتها على تواصل عملي مع بوتين، وهي التي تعلم أنها تحظى بتقدير لدى زعيم الكرملين على الرغم من العقوبات الأوروبية المفروضة على موسكو. وفي السياق، قالت مراسلة "إيه آر دي" في موسكو، كريستينا ناغل، أخيراً، إن "الأزمات الكبرى، لم تؤثر على تعاطي ميركل في القضايا الدولية، وهي تردد دائماً أنه من الأفضل التحدث مع بعضنا البعض، بدلاً من الحديث عن بعضنا ودائماً ما تستمع إلى حجج الآخر. ومن المعلوم أنها تمكنت أخيراً من خلق تسوية مع الولايات المتحدة بخصوص مشروع نورد ستريم 2" الذي سينقل الغاز الروسي إلى أوروبا، ومن المتوقع استكمال خط الأنابيب الخاص بهذا المشروع خلال الشهر المقبل.

براغماتية ميركل أبقتها على تواصل عملي مع بوتين

وفي ما يتعلق بالعلاقة مع تركيا، وبينما كانت العلاقات الأوروبية التركية مضطربة في فترات عدة، بسبب تشعب الملفات العالقة بين الجانبين، من مطالبة أنقرة بالانضمام للاتحاد الأوروبي، والعقبات الجمركية بين الطرفين، إلى أزمة اللاجئين، وسجن الصحافيين ونشطاء حقوق الإنسان في تركيا، لكن المستشارة الألمانية استطاعت وفي الكثير من المحطات تدوير الزوايا، وفرض حلول وسطية، منها مثلاً اتفاقية اللاجئين الموقعة عام 2016 مع الاتحاد الاوروبي، والمتوقع تمديدها خلال الفترة المقبلة. كل ذلك، بعد أن اعترفت ميركل أن اعتماد سياسة للجوء، لن تنجح من دون تركيا.

وفي المقلب الآخر من العالم، أي مع الولايات المتحدة، عاصرت ميركل أربعة رؤساء أميركيين هم جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب وحالياً جو بايدن الذي وصفها خلال زيارتها الأخيرة لواشنطن بـ"الصديقة المقربة". وكان هناك الكثير من التعاون المثمر في العديد من المجالات بين واشنطن وبرلين، أهمها التعاون في مكافحة الإرهاب الدولي، والتعاون الاقتصادي وخصوصاً خلال عهد كل من بوش وأوباما. إلا أنّ هذه العلاقة انتكست مع وصول ترامب إلى الحكم، الذي أمعن في ضرب كل أسس التعاون عبر حلف شمال الأطلسي، حتى أنه قدم الدعم العلني لليمين الشعبوي في أوروبا، وراح يفرض التعريفات الجمركية العقابية على المنتجات الأوروبية، ويطالب بمزيد من الانفاق الدفاعي الأوروبي ضمن حلف شمال الأطلسي، وغيرها من القضايا، لتعود وتستوي نسبياً العلاقات مع وصول بايدن أخيراً إلى البيت الأبيض، على الرغم من بقاء بعض التباينات في ما يخصّ العلاقة مع الصين ودعم حلف الأطلسي، وبعض المقاربات المتعلقة بملفات دولية أخرى.

عاصرت ميركل أربعة رؤساء أميركيين

في المقابل، لم تتمكن ميركل وحلفاؤها من فرض حلّ بشأن الحرب الأهلية الطاحنة في سورية والمستمرة منذ أكثر من عشر سنوات، مع مساهمة برلين في الكثير من المساعدات الإنسانية للسوريين. كما لم تسهم ألمانيا بظهور نتائج حقيقية بما يخصّ الوضع في ليبيا، على الرغم من الجهود الألمانية لدعم الحل السلمي في البلاد، وعقد مؤتمرين لهذه الغاية في برلين. وقد طاولت ميركل أخيراً الانتقادات بعد انسحاب قوات الجيش الألماني العاملة ضمن مهمة حلف شمال الأطلسي من أفغانستان، وهو ما سمح لحركة "طالبان" باستعادة السيطرة على مناطق شاسعة في البلاد، وبات ينظر للحريات والمرأة والتعليم على أنها في خطر هناك، فضلاً عن التوجس من موجات جديدة من اللاجئين. كذلك تحدثت صحيفة "بيلد" الألمانية، عن أن ميركل "لم تنجح في فرض إنهاء العمل بمشروع نورد ستريم 2، الذي سيموّل النظام الذي يزعزع استقرارنا في أوروبا وعلى نطاق واسع".

مغادرة ميركل الحياة السياسة الألمانية بعد الانتخابات البرلمانية العامة المقررة أواخر سبتمبر/أيلول المقبل، رآها نائب المستشارة السابق، الاشتراكي زيغمار غابرييل، في حديث مع صحيفة "أوغسبورغر ألغماينه"، أخيراً، بمثابة انكسار صعب للسياسة الألمانية. وقال إنه "ربما هناك شيء واحد لم تحققه خلال خدمتها الطويلة والناجحة مستشارةً، وهو عدم إعداد الألمان عقلياً وسياسياً لعالم متغيّر تماماً، وما يعنيه ذلك لألمانيا وأوروبا"، في إشارة منه إلى أن العالم يشهد تحولاً جذرياً وحقيقياً في ظلّ التحديات السياسية والاقتصادية وتعاظم القوة العسكرية في العالم.

المساهمون