لا تزال تداعيات القصف الذي تعرضت له السفارة الأميركية داخل المنطقة الخضراء في بغداد يوم الأحد الماضي، تفرض نفسها على المشهد السياسي والأمني في العراق، لا سيما بعد تمسك الحكومة بضرورة التهدئة وعدم السماح بشن أي هجوم جديد يستهدف المصالح الأميركية. وترجم ذلك بتنفيذ اعتقالات طاولت "قائد القوة الصاروخية" في مليشيا "عصائب أهل الحق"، حسام الأزيرجاوي، أول من أمس الجمعة، مع أربعة عناصر آخرين بتهمة التورط بقصف المنطقة الخضراء، وبدء التحقيق معهم من قبل لجنة مشتركة تضم مسؤولين أمنيين وممثلاً عن هيئة "الحشد الشعبي". في موازاة ذلك، دخلت إجراءات التأهب في صفوف القوات العراقية اليوم الأحد، والتي كانت بدأت الإثنين الماضي، يومها السابع على التوالي، بمشاركة آلاف العناصر الأمنية من قوات الجيش والشرطة الاتحادية والأمن الوطني وجهاز الاستخبارات وقوات التدخل السريع، فضلاً عن الشرطة المحلية. وتنتشر عناصر هذه القوات على شكل وحدات راجلة أو من خلال نقاط مراقبة وحواجز تفتيش في مناطق عدة من العاصمة بغداد، فضلاً عن محيط المنطقة الخضراء التي تشهد تحليقاً مكثفاً لطائرات المراقبة المسيرة العراقية، تحسباً لتكرار الهجمات الصاروخية التي استهدفت السفارة الأميركية.
وتسعى السلطات العراقية لمنع أي هجوم جديد على المصالح الأميركية في بغداد، وتحديداً السفارة الأميركية ومعسكرا صغيرا، يعرف باسم "قاعدة فيكتوريا"، موجودا ضمن حرم مطار بغداد الدولي. وتخشى بغداد من أنّ تكرار الهجمات قد يشكّل إيذاناً لأميركا للقيام بعمل عسكري جوي يستهدف فصائل مسلحة موالية لإيران، وينعكس بالمجمل على الوضع الأمني العراقي، وقد يفجّر صراعاً بين المليشيات والقوات النظامية في البلاد. وبالتزامن مع اعتقال القوات العراقية الأزيرجاوي، مع أربعة عناصر آخرين من مليشيا "العصائب" المرتبطة بإيران، ويتزعمها قيس الخزعلي، بتهمة التورط بقصف المنطقة الخضراء، أبلغ مسؤول عراقي رفيع في بغداد "العربي الجديد"، بأنّ رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، "حصل خلال الساعات الماضية على تأييد من المرجع الديني الأعلى علي السيستاني، في ملف مواجهة الجماعات التي تهدد استقرار العراق"، في إشارة إلى المليشيات المتورطة بالهجمات الأخيرة على المصالح الأميركية. وأوضح المسؤول الذي طلب عدم ذكر اسمه، أنّ "المرجعية الدينية أكدت على ضرورة احترام الدولة والقانون والحكومة، وعلى أنّ لا أحد فوقها، ولا يجب أن يترك الأمر لتصرّف واجتهادات الجماعات الأخرى، وأعربت عن تأييدها لخطوات الحكومة في منع انزلاق الأوضاع في العراق بحيث يصبح ساحة مواجهة بالنيابة".
السيستاني أيّد الكاظمي ضد مهددي الاستقرار في العراق
وشهدت بغداد مساء أول من أمس الجمعة، انتشاراً واسعاً للمئات من عناصر مليشيا "عصائب أهل الحق"، في جانب الرصافة، حاملين أسلحة متوسطة وخفيفة، مع سيارات رباعية الدفع تعود كلها تقريباً إلى "هيئة الحشد الشعبي"، وأصدروا سلسلة من التهديدات بحال لم تطلق الحكومة سراح الأزيرجاوي. وهو ما استدعى من رئيس الوزراء الرد على تلك التهديدات، بالقول في تغريدات على "تويتر" إنّ "أمن العراق أمانة في أعناقنا، ولن نخضع لمغامرات أو اجتهادات"، مؤكداً "الاستعداد للمواجهة الحاسمة إذا اقتضى الأمر". كما أجرى الكاظمي في ساعة متأخرة من اليوم نفسه، جولة ليلية في عدد من مناطق بغداد بصحبة قيادات أمنية من جهاز مكافحة الإرهاب والجيش.
بدورها، أصدرت قيادة العمليات العراقية المشتركة بياناً أمس السبت، قالت فيه إن "العاصمة بغداد آمنة، ولا يوجد أي تهديد لها"، تعليقاً على انتشار مسلحي مليشيا قيس الخزعلي. وأوضح المتحدث باسم العمليات المشتركة، اللواء تحسين الخفاجي، أنّ "بغداد بوضع أمني مستقر، ولدينا الإمكانيات لإيقاف أي حالة تدهور للوضع الأمني"، مؤكداً "تكثيف الجهد الاستخباري لملاحقة مطلقي الصواريخ، ومتابعة التنظيمات التي تحاول أن تسيء إلى الوحدات والأهداف الحيوية".
ووفقاً لمعلومات حصل عليها "العربي الجديد"، فإنّ المعتقلين من مليشيا "عصائب أهل الحق"، يخضعون للتحقيق حول تورطهم بالهجمات على السفارة الأميركية إلى جانب عناصر آخرين من مليشيات أخرى كانوا شاركوا بهجمات سابقة. ويحقق مع هؤلاء لجنة من بين أعضائها ممثل عن هيئة "الحشد الشعبي" إلى جانب مسؤولين أمنيين من مديرية الاستخبارات وجهاز المخابرات والأمن الوطني، وذلك ضمن تسوية لاحتواء تصعيد المليشيا. ويتواجد المعتقلون حالياً في مركز احتجاز بمنطقة القناة شرقي بغداد.
من جانبه، قال مصدر مقرب من هيئة "الحشد الشعبي"، لـ"العربي الجديد"، إنّ التحرك لاعتقال عناصر "عصائب أهل الحق"، "جاء بموافقة وتأييد من زعيم فيلق القدس، إسماعيل قاآني، من أجل ردع وتفكيك الفصائل غير الملتزمة أو المتمردة على القرارات". وأكد المصدر أنّ "كلا من رئيس أركان الحشد الشعبي عبد العزيز المحمداوي المعروف بأبو فدك، وزعيم تحالف الفتح ورئيس منظمة بدر هادي العامري، على علم بأن تحرك الحكومة جاء بعد زيارة قاآني الأخيرة إلى بغداد واجتماعه المنفرد مع الكاظمي"، مرجحاً "حصول زيارة أخرى للجنرال الإيراني إلى بغداد، ضمن مساعي ضبط التهدئة، برغبة من الكاظمي هذه المرة".
اعتقال عناصر "عصائب أهل الحق" جاء بموافقة من قاآني
ونأت قوى سياسية وأعضاء في البرلمان العراقي، بنفسهم عن التعليق على أحداث الساعات الأخيرة، والانتشار الأمني في بغداد. وحول ذلك، قال عضو التحالف المدني العراقي، محمد الناصري، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "القوى السياسية كافة باتت أمام خيارين؛ إما الموافقة على تصرفات المليشيات أو الوقوف مع الدولة، لذا نجد الكثير ممن يتهربون من التصريح بموقفهم الواضح مما يجري". وأضاف الناصري أنّ "الوضع في بغداد فوضوي جداً، والكاظمي شخصية مترددة وغير حازمة وقد يكون ذلك أحد أسباب استقواء المليشيات"، معتبراً أن "التسريبات التي تؤكد أن الكاظمي طلب مساعدة من قاآني لضبط المليشيات، لها دلالات محزنة للغاية لجميع العراقيين الحالمين ببلد مستقل".
وفي وسط التوتر، أصدر زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، أول من أمس بياناً طالب فيه إيران بإبعاد العراق عن صراعها مع الولايات المتحدة. من جهته، اعتبر الخبير في الشأن السياسي العراقي مجاهد الطائي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "ما يجري في العراق اليوم، ومشهد الفصائل المسلحة وتحديها للدولة، وتضارب المواقف بين ما تقوله إيران وما يجري من استهداف للمنطقة الخضراء، ينطوي على سيناريوهين إثنين؛ الأول أن هناك تمردا حقيقيا داخل فصائل الحشد الشعبي، بدأ بانشقاق فصائل حشد العتبات التابعة للنجف، ثم تفكيك مليشيا الخراساني، وزيادة التنافس والصراع داخل مليشيات نافذة في بغداد على قيادة أو تصدر المشروع الإيراني. وهذا كله يتناسب مع تقارير تتحدث عن وجود خلافات بين الحرس الثوري وفيلق القدس (التابع للحرس) منذ مقتل قاسم سليماني". وأضاف أنّ السيناريو الثاني هو "تكتيك إيراني جديد قبيل رحيل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لضرب فكرة اتهام إيران بشكل مباشر بأفعال وكلائها في العراق، والتنصل من المسؤولية مع حصد النتائج".