في مؤشر إلى التوصل لصفقة شاملة لمنع انزلاق البلاد إلى الفوضى برعاية روسيا تضمن مصالحها، أعلن رئيس قرغيزستان سورونباي جينبيكوف استقالته من منصبه، أمس الخميس، "منعاً لسفك الدماء ومن أجل السلام في قرغيزستان، ووحدة البلاد، ووحدة شعبنا، والهدوء في المجتمع". وبات رئيس الوزراء المقرب من روسيا سادير جباروف الحاكم الفعلي للبلاد، بما له من تأثير على الشارع، حتى موعد إجراء الانتخابات البرلمانية في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، والانتخابات الرئاسية التي لم يحدد موعدها بعد، فيما ينصّ الدستور على أن يشغل رئيس البرلمان موقع الرئيس في حال شغوره حتى تنظيم الانتخابات.
وجاءت الاستقالة غداة مصادقة البرلمان على تعيين جباروف رئيساً للحكومة وإقرار تعيين الوزراء في التشكيلة الحكومية، وإصدار جينبيكوف مرسوماً يصادق على التعيينات، بعد اجتماع مع جباروف يبدو أنه شهد خلافات وضغوطاً إضافية مارسها الأخير المعروف بشعبويته، إثر مطالبته جينبيكوف بالإيفاء بوعوده والتنحي يوم الأربعاء. وفي تلويح مباشر للاحتكام إلى الشارع مرة أخرى، قال جباروف، ليلة الأربعاء، إن "الرئيس نكث بوعوده السابقة. هذا ليس طلبي، هذا مطلب الشعب. طالب الشعب باستقالة الرئيس. عقدنا مفاوضات وكان هناك نواب. قال الرئيس إنه سيستقيل في غضون ثلاثة أيام. قلنا للشعب إنه سيغادر فلتتفرقوا (المتظاهرون)، لكن عشرة أيام مرت بالفعل" ولم يستقل الرئيس.
كان جباروف سجيناً كما خدم عامين في الجيش السوفييتي
ورداً على هذه التصريحات، قالت متحدثة باسم جينبيكوف إنه لن يستقيل إلا بعد انتخاب البرلمان وتحديد موعد الانتخابات الرئاسية. وردّ جباروف في وقت متأخر من ليلة الأربعاء، بالقول إن المفاوضات ستستمر أمس، مشدّداً على أن الرئيس "سيغادر، سيغادر. بقيت اللحظات الأخيرة من المفاوضات"، وهو ما حصل عملياً. وبعد أقل من ساعة على إصدار الديوان الرئاسي بياناً صحافياً كشف فيه أن جينبيكوف أصدر مرسوماً بتعيين كينيشبيك دوشيبايوف سكرتيراً لمجلس الأمن في قرغيزستان، نشر الموقع خطاب استقالة الرئيس. وأشار جينبيكوف إلى أن "الوضع الاجتماعي السياسي في عاصمة بلدنا، بيشكك، ما زال متوتراً"، على الرغم من أن "جوغوركو كينيش (البرلمان) وافق على تشكيل الحكومة، وأنا وقّعت المراسيم الصادرة بشأن التعيينات المناسبة". وأعرب عن أسفه لأن هذه الإجراءات "لم تخفف التوتر. للأسف، العنف لم يهدأ، والمطالبة باستقالتي الفورية ما زالت مستمرة". ومع تحذيره من أن الوضع الناشئ قريب من صراع المحتجين وأجهزة إنفاذ القانون، وعدم استبعاده استخدام رجال الأمن العسكريين الأسلحة لحماية مقرات الدولة ما قد يؤدي إلى سفك الدماء، حض جينبيكوف "الجانبين على عدم الانجرار وراء الاستفزازات"، داعياً جباروف وغيره من السياسيين لسحب أنصارهم من عاصمة البلاد وإعادة الحياة السلمية لأهالي بيشكك.
ومعلوم أن جينبيكوف أعرب عن استعداده للاستقالة لحل الأزمة السياسية المتصاعدة في البلاد، لكنه اشترط في 9 من الشهر الحالي إعادة البلاد إلى الوضع القانوني، مقترحاً خطة من عدة نقاط تتضمن تعيين حكومة جديدة وتحديد موعد للانتخابات البرلمانية المقبلة، وبعدها يستقيل إثر حل الوضع "الحرج" وضمان وحدة بلاده. ويبدو أن ضغوطاً إضافية مورست على الرئيس لتعجيل قرار الاستقالة التي جاءت بعد يوم من مصادقة البرلمان في جلسة استثنائية حضرها 80 نائباً من أصل 120، على تعيين جباروف في المنصب مع حكومته المقترحة، تلتها مصادقة الرئيس.
وفي المقابل، تشير المصادقة على تعيين كانات إيسايف، حليف الرئيس المستقيل، في منصب رئيس البرلمان، إلى تسوية تم التوصل إليها بين النخب الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي حالياً. وعلى الرغم من أن أي رئيس مستقبلي في قرغيزستان لا يملك إمكانية تهديد العلاقات مع روسيا، يبدو أن الكرملين استعجل حسم الأمور من أجل تثبيت جباروف. وقرر عدم انتظار نقل السلطة بطريقة أكثر حضارية بمقتضى خريطة الطريق التي رسمها جينبيكوف سابقاً، تحسباً، على ما يبدو، من انزلاق البلاد إلى الفوضى ما يشكل ضغطاً إضافياً على صناع القرار في موسكو مع وجود أزمات مفتوحة كثيرة في ناغورنو كاراباخ، وسورية وليبيا، إضافة إلى ملف بيلاروسيا والعلاقات المتوترة مع الغرب بسبب قضية تسميم ألكسي نافالني. وفي أول تعليق روسي على الاستقالة، ورداً على سؤال حول ما إذا كانت الاستقالة علامة ضعف أم انطلاقا من حس بالمسؤولية، قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن "أي عمل من شأنه المساعدة على استقرار الوضع ووضعه على المسار الدستوري هو عمل مهم".
واستنفرت موسكو قوتها من أجل التوصل إلى حلول سريعة، ففي 12 الحالي أوفد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نائب رئيس الإدارة الرئاسية لروسيا ديمتري كوزاك، وهو أبرز مسؤول روسي في ملف العلاقات مع بلدان الاتحاد السابق، إلى قرغيزستان، والتقى كلاً من جينبيكوف وجباروف. واللافت أن موسكو لم تعلن عن الزيارة أو فحوى نشاطات واجتماعات كوزاك في بيشكك.
ستُجرى الانتخابات التشريعية الجديدة في 6 نوفمبر المقبل
ويعّد جباروف من أكثر المسؤولين في بيشكك المتحمسين لعلاقات قوية مع موسكو، وأطلق سراحه يوم 6 الحالي بعد اقتحام متظاهرين السجن الذي كان يقضي فيه حكماً منذ 2017، ويبلغ من العمر 52 عاماً. وخدم جباروف لمدة عامين في الجيش السوفييتي، وعمل في المزارع الجماعية في مناصب مختلفة، ثم ترأس شركة نفطية، وحصل على شهادتين علميتين، آخرهما إجازة في القانون، وبدأ حياته السياسية بعد ثورة 2005 المعروفة بـ"ثورة التوليب"، وعمل لسنوات في الوكالة الوطنية للوقاية من الفساد، وانتخب مرتين لعضوية برلمان قرغيزستان. وقبل أيام، أكد جباروف في مؤتمر صحافي أن قرغيزستان لا تعتزم مراجعة الاتفاق مع روسيا بشأن قاعدة "كانط" العسكرية الروسية على أراضيها، ووصف روسيا بأنها شريك استراتيجي لقرغيزستان. وأضاف "سنواصل علاقتنا الوثيقة مع روسيا". وفي فبراير/ شباط الماضي، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنها تخطط لنشر معدات دفاع جوي ووحدة من الطائرات المسيرة في القاعدة. بالإضافة إلى ذلك، تخطط وزارة الدفاع لإعادة بناء مرافق البنية التحتية للقاعدة. وتعمل قاعدة "كانط" الجوية الروسية على أراضي قرغيزستان منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2003.