تشهد الجزائر، اليوم الأحد، خامس استشارة انتخابية شعبية (بينها استفتاء شعبي واحد على قانون المصالحة الوطنية عام 2005)، ورابع استفتاء حول الدستور منذ استقلال البلاد عام 1962، إذ يتوجه الناخبون إلى مراكز الاقتراع، للتصويت على مسوَّدة دستور جديد للبلاد طرحه الرئيس عبد المجيد تبون. وفيما تعتبر السلطة وأحزاب الموالاة أنّ الدستور الجديد، المكوّن من 225 مادة، تكفّل بمجمل المطالب السياسية التي رفعها المتظاهرون في الحراك الشعبي على مدار عام ونيّف، ترى قوى المعارضة ومكونات في الحراك أنّ هذا الدستور لا يفي بمتطلبات الانتقال الديمقراطي.
وتتجه الأنظار إلى ما بعد إقفال صناديق الاقتراع اليوم، لمعرفة من سيربح الرهان، السلطة أو المعارضة أو حزب "العزوف الانتخابي"، في ثاني استحقاق انتخابي تشهده البلاد منذ استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في إبريل/ نيسان 2019 تحت الضغط الشعبي، ومنذ بدء الحراك في فبراير/ شباط 2019. وإذا كانت السلطة قد نجحت على الرغم من عامل الرفض الشعبي، في إنجاز الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، التي حملت عبد المجيد تبون إلى الرئاسة، فإنّ عامل أزمة وباء كورونا التي عطلت البلاد منذ مارس/ آذار الماضي، لم تمنع تبون المدعوم من الجيش، من إطلاق "دستوره"، على غرار كل رؤساء الجزائر الذين كان لكل منهم دستوره أيضاً.
تبدو مؤشرات نيّات التصويت لـ24.4 مليون ناخب غامضة
وبين الداعين إلى التصويت بـ(لا) على الدستور، وهؤلاء يشكلون كتلة سياسية وشعبية مؤثرة، وبين الداعين إلى التصويت بـ(نعم)، وهم كتلة تستفيد من ماكينة انتخابية وجهاز إداري مساعد لها، تبدو مؤشرات نيّات التصويت لـ24.4 مليون ناخب غامضة. ومع وجود كتلة ثالثة من المقاطعين الرافضين للاستفتاء والدستور معاً، لا يمكن حسم التوقعات بشأن نسبة المشاركة في الاقتراع، إذ لا تملك الجزائر معاهد أو وكالات لقياس الرأي العام. لكن المناخ السياسي الذي رافق الحملة الانتخابية والجدل الذي أثير حول بنود الدستور وحدّة الانقسام في المواقف، يدفع باتجاه توقعين على الأقل: الأول، ارتفاع نسبة المشاركة إلى مستوى مقبول قد يفوق الـ50 في المائة، خصوصاً مع تحريض قوى معارضة للدستور الناخبين على المشاركة في التصويت، أو على الأقل تسجيل أفضلية عن المعدلات السابقة، بعدما تجمّدت نسبة المشاركة عند حدود 39 في المائة، في آخر استحقاقين انتخابيين قبل الحراك وبعده (الانتخابات النيابية في مايو/ أيار 2017 والرئاسية في ديسمبر 2019)، على الرغم من تغيّر الظروف والسياقات. فيما يتوقع أن تبقى معدلات العزوف الانتخابي مرتفعة في العاصمة وولايات منطقة القبائل والحواضر الكبرى التي تشهد مقاومة مستمرة من قبل مكونات الحراك الشعبي، يضاف إلى ذلك ما يعرف في الجزائر بحزب "الأوراق الملغاة"، التي بلغت في آخر انتخابات جرت في ديسمبر الماضي 1.8 مليون ورقة. ويذهب التوقع الثاني إلى أنّ السلطة ستحسم الاستفتاء لمصلحة الدستور الجديد، حتى في حال تسجيل معدل مرتفع من المصوتين بـ(لا). هذا من دون الحديث عن اعتبارات أخرى ومخاوف تطرحها قوى المعارضة حول إمكانية حدوث تلاعب بنتائج الاستفتاء من قبل السلطة، حتى في ظلّ وجود إشراف كامل عليه من قبل سلطة مستقلة للانتخابات، تخوض اختبارها الثاني منذ إنشائها في سبتمبر/ أيلول 2019.
وفي كل الأحوال، يعطي تنظيم الاستفتاء في موعده، بعد استيفاء كل المراحل السياسية والترتيبات اللوجستية، ومع بدء تصويت الناخبين البدو الرحل والجاليات في الخارج قبل يومين، مؤشراً قوياً على عودة "الميكانيكا" السياسية للدولة للاشتغال بشكل طبيعي كما قبل حراك فبراير 2016، وتعافيها نتيجة التغيّر الحاصل في مركز القرار، بعد أقل من سنة واحدة من حكم تبون. كذلك يظهر نجاح السلطة السياسية الجديدة في خلق انسجام مع الجهاز البيروقراطي (المؤسسات الإدارية)، بعد تجاوز الأخير لمخلفات الهزة العنيفة التي أحدثها الحراك الشعبي، وتعافيه من آثار الاختلال الذي رافق نقل السلطة بعد رحيل بوتفليقة ومجموعة حكمه، وخصوصاً أنّ استفتاء الدستور يبدو المعركة السياسية الأهم في الوقت الراهن بالنسبة إلى تبون، والتي لا يجب خسارتها.
ومنذ طرح مسوَّدة الدستور الجديد بداية شهر سبتمبر الماضي، تبنّت السلطة استراتيجية سياسية بعنوان "مناسب للكل ومفيد للجميع". وعلى هذا الأساس أدارت ملف الاستفتاء الشعبي، إذ استوعبت الحاجيات السياسية لمختلف التيارات، وقدمت مكاسب دستورية لكل طرف، سواء للإسلاميين بتعزيز مكانة الدين الإسلامي، أو العلمانيين بتحييد المدرسة والمساجد، بعدما نصّت المادة الـ 65 من الدستور الجديد على أن "تسهر الدولة على ضمان حياد المؤسسات التربوية وعلى الحفاظ على طابعها البيداغوجي والعلمي بقصد حمايتها من أي تأثير سياسي أو أيديولوجي". كذلك منحت ترضية سياسية للتيار الأمازيغي بنقل اللغة الأمازيغية المكرسة بموجب المادة الـ 4 كلغة وطنية ورسمية، إلى لائحة المواد المحفوظة المنصوص عليها في المادة 223 التي لا يمكن تغييرها في أي تعديل دستوري مستقبلي. ونسجت السلطة كذلك تحالفات جديدة مع قوى ومجموعات من توجهات مختلفة، وشبكة من المنظمات المدنية التي تولت تسويق مشروع الدستور، وإقناع الرأي العام في الساحات وعبر المنابر بصلاحيته كأرضية للتغيير في البلاد، على الرغم من المناخ السياسي والاجتماعي المقلق، سواء بسبب استمرار الاعتراضات السياسية أو تداعيات الأزمة الوبائية على الجزائريين.
إخفاقات السلطة بشأن مشروع الدستور والاستفتاء كثيرة
في السياق، قال عميد كلية العلوم السياسية بجامعة ورقلة جنوبي الجزائر، قوي بوحنية، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الاستفتاء يجري في ظرف خاص يتميّز بتسويق سياسي وانتخابي أحادي الاتجاه، وغياب الصوت الآخر في مختلف وسائل الإعلام، ما دفع إلى نقل النقاش السياسي إلى الفضاء الأزرق ووسائل التواصل الاجتماعي". وأضاف: "لاحظنا أنّ حجم التجنيد الرسمي من قبل السلطة التنفيذية والطاقم الحكومي كان كبيراً جداً، لغرض التعبئة للتصويت بنعم، وأعتقد أنّ المهم بالنسبة إلى السلطة وتبون إنجاح تمرير الدستور، لأن ذلك يعني استكمال شرعية حكم الرئيس، ومشروعية خطته للإصلاح السياسي التي سيطرحها لاحقاً".
وبخلاف الانتخابات الرئاسية الماضية قبل أقل من عام، التي واجهت فيها السلطة كتلة سياسية وتظاهرات شعبية رافضة للمسار الانتخابي، نجحت السلطة هذه المرة في كبح الحراك الشعبي ومحاصرته، عبر غلق كل منافذ وساحات تحرك الناشطين، وتنفيذ سلسلة من الاعتقالات. كذلك استخدمت الأزمة الوبائية ضمن سياقات حظر التظاهر، في مقابل إتاحة الفرصة للتجمعات الانتخابية التي تشرح الدستور الجديد. لكن نجاحها الكبير تمثّل بتحقيق اختراق لافت في هذه الكتلة الرافضة، عندما دفعت أحزاباً وقوى سياسية ومدنية إلى المشاركة في المشاورات حول الدستور، وتقديم مقترحاتها بشأن المسودة التمهيدية، وهو ما يعني قبول هذه القوى التعامل مع السلطة السياسية الجديدة والرئيس عبد المجيد تبون كأمر واقع، ثمّ قبولها المشاركة في الاستفتاء الشعبي بغضّ النظر عن الموقف من الدستور قبولاً أو رفضاً. فالسلطة تعتبر أنّ دعوة هذه القوى المعارضة، على غرار حركة "مجتمع السلم"، أكبر الأحزاب الإسلامية في الجزائر، و"جبهة العدالة والتنمية" وحزب "جيل جديد"، الناخبين للمشاركة والتوجه إلى صناديق الاقتراع، فيه نصف مكسب لها على الأقل، وهو ما رأى فيه المحلل السياسي جمال أعراب نوعاً من الذكاء السياسي.
وقال أعراب في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "طرح الدستور في ظلّ ظروف سياسية واجتماعية عصيبة بسبب الأزمة الوبائية، وإجراء مشاورات بشأنه من خلال اللجنة الدستورية، ووسط كل الجدل حول النسخة النهائية له، ثم التصميم على إجراء الاستفتاء في ظلّ كل هذه العوامل، ليس خطأً، بل هو إشارة إلى أنّ استمرارية الدولة ضرورة، ودليل على رغبة قوية في الإصلاح واستغلال الزمن. وهذا يعتبر نجاحاً بالنسبة إلى السلطة، لأنها في النهاية ستخلق وضعاً دستورياً وسياسياً جديداً ومغايراً تماماً لما قبلها".
في مقابل هذا النجاح النسبي، تبدو اخفاقات السلطة بشأن مشروع الدستور والاستفتاء كثيرة وبارزة، إذ لم تنجح في تحقيق حدّ أدنى من التوافقات السياسية حول المسودة، وقدمت أداءً سلبياً في مجال الحريات والرأي، بعدما منعت كل القوى الرافضة للدستور من شرح مواقفها للرأي العام وحظرت تجمعاتها ومشاركتها في أي نقاش سياسي خلال الحملة الانتخابية، وهو مؤشر عزز المخاوف حيال صدقية خطاب السلطة بشأن مستقبل زاهر للحريات في البلاد. هذا إضافة إلى أنّ السلطة فشلت فشلاً ذريعاً في تقديم خطاب سياسي ووجوه جديدة تدافع عن مشروعها الدستوري، وهو ما دفعها إلى العودة للوراء والاستعانة بأحزاب كان الحراك الشعبي يطالب بحلها، وبوجوه غير مقبولة شعبياً، لأنها كانت في واجهة الداعمين لحكم بوتفليقة ولترشحه لولاية رئاسية خامسة.
خياطي: أكبر فشل يسجل على السلطة، أنها فوتت على الجزائريين فرصة تاريخية بعد حراك شعبي
لكن الناشط السياسي ورئيس "تجمع شباب الجزائر"، هشام خياطي، اعتبر أنّ "أكبر فشل يسجل على السلطة، أنها فوتت على الجزائريين فرصة تاريخية بعد حراك شعبي، لمناقشة كبرى القضايا السياسية في إطار مؤتمر وطني، وعبر ندوات شعبية بهدف صياغة دستور توافقي، يكون أكثر تمثيلاً لتطلعات الجزائريين نحو الديمقراطية".
ويمكن إجمال أبرز التعديلات الدستورية، في عدد من النقاط التي تخصّ إقرار اعتراف في الدستور بالحراك الشعبي كمحطة تاريخية، وإعادة تنظيم صلاحيات رئيس الجمهورية، والسماح للجيش بالقتال في الخارج وفق ضوابط محددة وبموافقة ثلثي أعضاء البرلمان، ووضع نظام خاص ببعض البلديات، وإنشاء هيئة مستقلة لمحاربة الفساد، وكذا محكمة دستورية تراقب القوانين وقرارات السلطات. فضلاً عن حصر صلاحية حلّ الأحزاب والجمعيات وتوقيف وسائل الإعلام بقرار قضائي، وإدراج اللغة الأمازيغية ضمن الأحكام التي لا تخضع للتعديل الدستوري مستقبلاً، وإقرار حرية المعتقد والعبادة، وتحييد المدرسة والمسجد عن كل تدخل سياسي وإيديولوجي. والبنود الثلاثة الأخيرة كانت محور سجال سياسي بين التيار العلماني والتيار الإسلامي والمحافظ، ففيما وجد الأول فيها تكريساً لقيم العلمانية واحتراماً للهوية المحلية وتجفيفاً لمنابع استثمار التيار الديني، قرأ فيها التيار الثاني تفخيخاً لغوياً برفع اللغة الأمازيغية إلى مقام اللغة العربية كلغة رسمية، وعلمنة للمدرسة ورهبنة للمسجد وإبعاده عن دوره الأساس في مناقشة قضايا الأمة.
ورأى حزب "جيل جديد" (تقدمي) أنّ تحييد المسجد والمدرسة عن أي توظيف سياسي وإيديولوجي وحسم ملف الهوية "أمر جيّد". وقال نائب رئيس الحزب، زهير رويس في آخر تقدير موقف نشره أخيراً، إنّ "مشروع الدستور يحمل في طياته بعض المواد التي يمكن اعتبارها تقدماً حقيقياً في المجال الديمقراطي". وأضاف: "الدستور الجديد قد لا يكون كافياً، وربما لا يستجيب لكل التطلعات الديمقراطية، لكنه يصلح مرحلياً كأرضية للانطلاق نحو بناء ديمقراطي تدريجي، يجري تحسين ظروفه بالنضال السياسي مستقبلاً".
لكن هذه القراءة الإيجابية للدستور لا تجد لها سبيلاً عند قوى معارضة تطرح جملة واسعة من المآخذ على الدستور الجديد، وتعتبر أنه لا يفي بحاجة الجزائريين وتطلعاتهم نحو الديمقراطية، خصوصاً بعد حراك شعبي أطاح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وأعطب مشروع ولايته الرئاسية الخامسة. وترى هذه القوى أنّ الدستور الجديد قدم جرعة من التغييرات الشكلية التي لا توفر أي ضمانات حقيقية لإنجاز التغيير السياسي، والقطيعة مع الممارسات السياسية السابقة.
وفي السياق، قال القيادي في حركة "مجتمع السلم"، نصر الدين حمدادوش، لـ"العربي الجديد"، إن "المتأمل في الدستور يخلص إلى تضخم صلاحيات رئيس الجمهورية. فهو الرئيس ورئيس مجلس الوزراء ورئيس المجلس الأعلى للقضاء والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذي يعيّن رئيس المحكمة الدستورية، ورئيس الحكومة وغيره". وأضاف "كل هذه الصلاحيات تجعله مهيمناً ومتمتعاً بسلطة فردية، ولا يخضع لأي رقابة أو مساءلة، وهذا يكفي لأن نعترض على الدستور".