بعد ثلاثة أشهر على بدء الهجوم الأوكراني المضاد ونتائجه المتواضعة، لا تلوح في الأفق حتى الآن أي مؤشرات جدية على إمكانية وضع حد للحرب الروسية على أوكرانيا قريباً، مع عدم قدرة الطرفين عسكرياً على الحسم، وصعوبة الوصول إلى أرضية مشتركة لتسوية سياسية، فالشروط التي تضعها كل من موسكو وكييف للجلوس إلى طاولة المفاوضات متباعدة جداً، لتتجه الأمور إلى حرب استنزاف طويلة، في حال عدم القدرة على اشتقاق مخرج ثالث "هجين" قد يفرض نفسه لتجميد الصراع.
استعصاء عسكري روسي
بناء على الأوضاع الميدانية، تستبعد كل السيناريوهات الموضوعة على طاولة النقاش وجود فرصة واقعية لروسيا أو أوكرانيا لتحقيق نصر عسكري، فكل طرف لديه نقاط قوة ونقاط ضعف، تحول دون فرض حل بالوسائل العسكرية.
وعلى الرغم من أن الحرب لا تسير حالياً في صالح روسيا، إلا أن القوات الروسية نجحت منذ بداية فصل الصيف في الحفاظ على موقع دفاعي صلب، أفشل محاولات القوات الأوكرانية إحداث اختراقات مهمة في الجبهة الشرقية أو الجنوبية. لكن البقاء في وضعية الدفاع لا يؤدي إلى كسب الحرب في المحصلة النهائية.
القوات الروسية نجحت منذ بداية فصل الصيف في الحفاظ على موقع دفاعي صلب
ومن الواضح أن الجنرالات الروس يراهنون على استمرار الحرب لأطول مدة ممكنة، والأنسب أن تكون بوتيرة منخفضة. فقدرة الجيش الروسي على التحمّل أكبر، إذ أن عدد أفراده أكبر بثلاث مرات من الجيش الأوكراني. وبصرف النظر عن النكسات التي عانى منها في الحرب على أوكرانيا، ما زال الجيش الروسي يتمتع بكفاءة مهنية ليست بسيطة، ويقف خلفه مجمع صناعي عسكري ضخم. وبحسب مصادر وكالة "روستيخ"، المسؤولة عن قطاع التصنيع العسكري والتقنيات في روسيا، فإن إنتاج الذخيرة ازداد مرات عدة لبعض الأنواع، ووصل إلى مستوى أوقات الحرب.
في المقابل، فإن استمرار الحرب ليس خياراً مجدياً لروسيا على المدى المتوسط، فالوتيرة المنخفضة للحرب لن تكون غالبة، وتحتاج موسكو إلى مضاعفة عدد أفراد جيشها بما يقارب مليون فرد عامل، لتعزيز حدودها مع الغرب، وحماية كامل حدودها الشاسعة، فضلاً عن مواصلة دعم جبهات القتال في أوكرانيا.
ومعلوم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصدر مرسوماً في أغسطس/آب 2022 يقضي بزيادة أفراد الجيش من 1.9 إلى 2.4 مليون. وفي نهاية شهر يوليو/تموز الماضي، صادق مجلس الدوما (البرلمان) الروسي على مجموعة من القوانين، تم بموجبها توسيع الفئة العمرية لتجنيد المجندين الجدد إلى ما بين 18-30 عاماً مقابل 18-27 عاماً في السابق. ويُعتقد أن قدرة روسيا على الوصول إلى هذه الزيادة غير واقعية في بلد يعاني من انخفاض عدد سكانه، بالإضافة إلى العبء المادي واللوجستي، إلى جانب الإشكالات التي أحاطت بقرار التعبئة الجزئية عام 2022.
وأثار تمرد مجموعة "فاغنر" في يونيو/حزيران الماضي شكوكاً حول صلابة الجبهة الداخلية الروسية. فقوات "فاغنر" وصلت إلى 200 ميل من موسكو تقريباً من دون أي مقاومة. وهناك خطر من أن استمرار الحرب لفترة طويلة ربما يؤدي إلى نقل المعركة للداخل الروسي بشكل من أشكال الحرب الهجينة.
يُعتقد أن قدرة روسيا على زيادة عديد قواتها غير واقعية
وفي الشهور الأخيرة، بدا أن أوكرانيا قررت نقل جزء من المعركة إلى الداخل الروسي عبر المسيّرات التي وصلت إلى أهداف على بُعد 700 كيلومتر. ومن الملاحظ أن قسماً من المسيّرات أصبح أكثر قدرة على الوصول إلى أهداف محددة مثل هجوم الأسبوع الماضي على مطار بيسكوف العسكري في شمال غرب روسيا، بعدما كانت معظم الأهداف في مقاطعات نوفوغورود وكورسك وبريانسك وكراسنودار وروستوف الحدودية مع أوكرانيا. كما أعلنت أوكرانيا، يوم الجمعة الماضي، نجاح تجربة صاروخ جديد يصل مداه إلى ألف كيلومتر، ما يعني قدرتها على إصابة أهداف بعيدة داخل روسيا.
"الصيف ضيّع النصر"
تواجه القوات الأوكرانية مقاومة شديدة في الشرق والجنوب، فخلال الشتاء والربيع الماضيين قامت القوات الروسية ببناء موانع وتحصينات وزراعة حقول ألغام، مستغلة الوتيرة المنخفضة للحرب، وتركيز القتال على جبهة باخموت.
ومع بدء الخريف وموسم الأمطار ما يعطل القدرة على الحركة بسبب طبيعة التربة السوداء في جنوب أوكرانيا، من غير المرجح أن تحقق القوات الأوكرانية خلال الأسابيع المقبلة اختراقات تؤثر في سير المعركة بشكل كبير. الهدف الرئيسي للقوات الأوكرانية في الهجوم المعاكس الذي بدأته في بداية يونيو الماضي كان الوصول إلى مدينة ميليتوبول بمقاطعة زابوريجيا الجنوبية، لقطع الرابط البري بين المناطق التي تسيطر عليها القوات الروسية في جنوب وشرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم.
وتشتكي أوكرانيا من أنها لم تحصل من حلفائها الغربيين على المعدات العسكرية والأسلحة الحديثة التي وُعدت بها، أو أن التسليم جاء متأخراً ما أجّل الهجوم من الربيع إلى الصيف. وتراهن كييف على أن تزويدها بطائرات "إف 16" سيمكّنها من إنهاء السيطرة الروسية في الجو، وتنفيذ هجمات على التجمعات الروسية خلف الخطوط، إلا أن إعداد الطيارين والفنيين الأوكرانيين سوف يستغرق عدة أشهر بحسب معظم التقديرات.
والإشكالية الأكبر التي تعاني منها أوكرانيا ومن الصعب حلّها في المدى القريب هي النقص الكبير في الذخائر التقليدية والقذائف الصاروخية، ويقول قادة عسكريون أوكرانيون إنه ليس المهم أن ترسل لنا الدول الغربية المزيد من الأسلحة إذا بقي الدعم بالذخائر قليلاً.
وأكثر ما تخشاه كييف هو اتجاه الحرب نحو وتيرة منخفضة، تؤدي إلى تراجع حماسة الغرب، واستنزاف قدرات الجيش الأوكراني، إلا أن عدم الوقوع في فخّ الوتيرة المنخفضة للحرب يتطلب ضمان استمرار الدعم العسكري الغربي ومضاعفته.
تواجه القوات الأوكرانية مقاومة شديدة في الشرق والجنوب
ويرتبط استمرار الدعم الغربي بمسألتين: الأولى نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، فنجاح مرشح عن الحزب الجمهوري في الانتخابات قد يحمل معه تراجع الدعم الأميركي. والثانية بقاء وحدة الموقف الأوروبي الداعم لأوكرانيا، واستعداد البلدان الأوروبية لتحمل العب الأكبر من تكاليف الدعم العسكري لأوكرانيا، الذي تتحمل القسط الأكبر منه حتى الآن الولايات المتحدة.
اقتصاد الحرب
تراجعت الأوضاع الاقتصادية في أوكرانيا بشكل كبير منذ بداية الحرب مع استهداف روسيا البنى التحتية الأساسية، وتركيز الجانب الأوكراني على صدّ الآلة العسكرية الروسية. وعانى الاقتصاد الأوكراني من تدمير المصانع وخسارة أجزاء واسعة من الجنوب والشرق موطن كثير من الصناعات الثقيلة منذ الحقبة السوفييتية. كما فقدت أوكرانيا أهم مصانع الصلب والحديد وخسرت موانئها على بحر آزوف، كما توقفت الصادرات من موانئ البحر الأسود لفترات طويلة. وفي ظل تعليق روسيا العمل باتفاقية الحبوب، زادت معاناة الاقتصاد الأوكراني الذي بات معتمداً بشكل أساسي على المنح والمساعدات والقروض الغربية.
في المقابل، لم يتأثر الاقتصاد الروسي في العام الأول كثيراً، على الرغم من أن البلدان الغربية فرضت أكثر من 13 ألف عقوبة على روسيا منذ بداية الحرب. وساعد ارتفاع أسعار الطاقة على مواصلة تمويل آلة الحرب في العام الأول، وتوقع صندوق النقد الدولي أن تحقق روسيا نمواً بحدود 1.5 في المائة.
ولكن تأثير العقوبات بدأ يظهر في الشهور الأخيرة، خصوصاً على قطاع الطاقة الذي تراجعت وارداته في النصف الأول من العام الحالي إلى أقل وارداتها في ذات الفترة من 2021، بسبب تحديد سقف سعري للنفط الروسي عند 60 دولاراً من قبل مجموعة السبع الكبار، وزيادة كلفة التأمين والشحن، إضافة إلى عدم قدرة روسيا على توجيه كميات كبيرة من الغاز الطبيعي إلى الصين كبديل للسوق الأوروبية التي كانت تستأثر بقرابة 170 مليار متر مكعب سنوياً، والسبب عدم وجود خطوط أنابيب كافية باتجاه الشرق.
نمو الاقتصاد الروسي يعود أساساً إلى زيادة الإنتاج الصناعي العسكري
والأرجح أن نمو الاقتصاد الروسي يعود أساساً إلى زيادة الإنتاج الصناعي العسكري، فالمصانع الدفاعية تعمل على مدار الساعة، وتستقطب موظفين مدنيين بمرتبات عالية، وتنهض الصناعات الدفاعية بعدد من الصناعات الأخرى وتحفز الإنتاج فيها، وزاد الإنفاق في القطاع الحكومي في الربع الأول بنحو 13.5 في المائة مقارنة بالفترة ذاتها من 2022. وبلغت حصة الصناعات العسكرية وملحقاتها قرابة رُبع هيكل الناتج المحلي الإجمالي الروسي.
في المقابل، على المديين المتوسط والبعيد لا يمكن استمرار الإنفاق الدفاعي الكبير. وبحسب تقديرات معهد استوكهولم، فقد ارتفع الإنفاق العسكري في عام 2022 بنسبة 9.2 في المائة إلى 86.9 مليار دولار، وفي النصف الأول من عام 2023، زاد عن 72.2 مليار دولار، متجاوزاً الخطة للعام كله. وتبلغ نفقات قطاع الدفاع ثلث نفقات الموازنة في الاقتصاد الروسي، أي ضعف ما كان عليه قبل الحرب.
انعدام أفق للتسوية السياسية
تشترط موسكو كأساس للتسوية وقف الجيش الأوكراني العمليات العسكرية على كل الأراضي الأوكرانية، واعتراف كييف بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم والمناطق الأوكرانية الأربع التي ضمتها روسيا في 30 سبتمبر/أيلول 2022 (لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون)، وإدخال تعديل على الدستور الأوكراني يمنع انضمام كييف لأي تكتلات عسكرية، وجعل أوكرانيا دولة منزوعة السلاح، وتخفيض عدد أفراد القوات المسلحة الأوكرانية.
بدورها، تضع كييف شروطاً للشروع في مفاوضات مع موسكو، حدّدها الرئيس فولوديمير زيلينسكي في عشر نقاط، تشمل أربع نقاط رئيسية ترفضها موسكو رفضاً قاطعاً، هي: عودة جميع الأراضي الأوكرانية بما يشمل شبه جزيرة القرم وكامل إقليم دونباس، وقف الأعمال العدائية بانسحاب روسيا واستعادة السيطرة على كامل الحدود الأوكرانية معها، إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة جرائم الحرب الروسية ومجرمي الحرب، ورابعاً منع تصعيد الصراع لمنع تجدد الحرب، من خلال هيكل أمني أوروبي أطلسي، يقدّم ضمانات لأوكرانيا.
أدت الاشتراطات الروسية الأوكرانية المتبادلة إلى تعطيل العديد من المبادرات التي تقدّمت بها بعض الدول
وأدت الاشتراطات الروسية الأوكرانية المتبادلة إلى تعطيل العديد من المبادرات التي تقدّمت بها بعض الدول والتجمعات الإقليمية لوقف الحرب والبدء بمفاوضات، على سبيل المثال لا الحصر المبادرة الصينية والمبادرة الأفريقية.
كما فشلت المباحثات الموسعة بشأن أوكرانيا في التوصل إلى اقتراحات ملموسة، مباحثات كوبنهاغن في يونيو، ومباحثات جدة في أغسطس الماضي. كييف وصفت مباحثات جدة بأنها كانت مثمرة وخطوة متقدمة على مباحثات كوبنهاغن، لكن موسكو وصفت الاجتماع بأنه "محاولة محكوم عليها بالفشل وغير مجدية". يشار إلى أن اجتماع جدة حضره ممثلون عن أكثر من 40 دولة ومنظمة دولية، وشاركت فيه الولايات المتحدة والصين والهند وعدد من الدول الأوروبية.
خيار تسوية هجينة
أثار تصريح أدلى به، في 16 أغسطس الماضي، مدير المكتب الخاص للأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) ستيان ينسن، لغطاً واسعاً حول موقف الحلف من الحرب الأوكرانية. ينسن قال في تصريحه: "الحل المحتمل لأوكرانيا سيكون التنازل عن جزء من أراضيها لروسيا والحصول على عضوية الناتو بالمقابل".
ينسن اعتذر لاحقاً عن تصريحه وأوضح أنه كان جزءاً من مناقشة أكبر حول السيناريوهات المستقبلية المحتملة في أوكرانيا. بدوره، قال الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، إن "سياسة الناتو لم تتغير، نحن ندعم سيادة ووحدة أراضي أوكرانيا داخل الحدود المعترف بها دولياً".
من غير المستبعد أن التوضيح الذي قدمه ينسن لم يبتعد عن حقيقة وجود نقاش غربي حول تنازل أوكرانيا عن جزء من أراضيها كأساس لتسوية هجينة، تنطلق من أنه يجب على الأوكرانيين استعادة أكبر قدر ممكن من الأراضي التي احتلتها روسيا حتى بداية العام المقبل، ومن ثم وقف الهجوم والانتقال إلى الدفاع، مقابل الحصول على عضوية في حلف شمال الأطلسي، في قمة الحلف التي ستعقد في واشنطن، في يوليو 2024. والأرجح أن العضوية ستكون مشروطة بعدم التزام الحلف بالمشاركة أو دعم أي عمليات هجومية قد تفكر أوكرانيا في شنّها على روسيا حتى على القرم والمناطق المحتلة بعد 24 فبراير/شباط 2022 (تاريخ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا) في حال عدم نجاح أوكرانيا في هذه المهمة حتى الربيع المقبل، مع دعم القدرات الدفاعية لمنع التقدم الروسي البرّي وإنهاء التفوق الجوي الروسي في سماء أوكرانيا عن طريق تزويدها منظومات دفاع جوي أكثر، وطائرات "إف 16".
يرتبط استمرار الدعم الغربي بالانتخابات الرئاسية الأميركية وبقاء وحدة الموقف الأوروبي الداعم لكييف
وربما ينطلق أصحاب هذه المقاربة من أنها تحدّ من قدرة بوتين على المناورة السياسية، كما أنها تجبر قادة الجيش الروسي على التفكير أكثر من مرة قبل شنّ هجوم على أوكرانيا، ما يشكل رادعاً، وفي الوقت ذاته، لن تضطر أوكرانيا إلى التنازل بشكل دائم عن أي أراضٍ لروسيا، بل يمكنها الاستمرار في السعي لاستعادة أراضيها بوسائل أخرى.
ولا تختلف هذه المقاربة عن الطريقة التي انضمت بمقتضاها ألمانيا إلى حلف الناتو حين كانت هناك حاجة لضمان أمن ألمانيا الغربية من دون الانجرار إلى حرب لإعادة السيطرة على ألمانيا الديمقراطية سابقاً، وانضمت ألمانيا الغربية شريطة عدم انطباق بند الدفاع المنصوص عليه في المادة الخامسة على أي حرب تبدأها.
من الواضح أن "الحلّ الهجين" ينطلق من خشية صف وازن من مسؤولي الناتو والبلدان الغربية من انزلاق الأوضاع إلى صراع مباشر بين الحلف وروسيا، ورغبة في تسوية ولو على حساب أوكرانيا. في المقابل، تصرّ كييف على أنها لن تتراجع عن مطالبها باستعادة جميع أراضيها المعترف بها دولياً في 1991. وترى أن أي اتفاق على التنازل عن الأرض مقابل عضويتها في الناتو سيكافئ العدوان الروسي.
في المقلب الآخر، فإن المؤكد أن موسكو لن تتخلى أبداً عن شبه جزيرة القرم حتى لو اضطرت إلى استخدام السلاح النووي والدخول في حرب مع الناتو، وما زالت تراهن على أن فشل الهجوم المضاد سيجعل موقف أوكرانيا أضعف ويفتح على تراجع الدعم الغربي خصوصاً في حال تباطؤ النمو الاقتصادي في منطقة اليورو، ما يفتح على تسويات من ضمنها "تجميد النزاع".