لم يحظ النضال الثقافي الفلسطيني بالمكانة التي يستحقها منذ بدايات حركة التحرر الفلسطيني، بل يمكن ملاحظة زيادة ملحوظة في تهميش هذا الشكل النضالي مؤخرا، من قبل الجسم السياسي الفلسطيني الرسمي والفصائلي بشقيه المنخرط وغير المنخرط في منظمة التحرير. أي نشهد اليوم استبعادا كليا لدور المثقفين النضالي على جميع المستويات وأهمها أدوارهم في نهضة المجتمع فكريا وحقوقيا، وفي التعبير عن جوهر الصراع السياسي والحقوقي، من خلال تعرية الدولة الصهيونية وفضح ممارساتها الإجرامية والعنصرية، وكذلك في توعية المجتمعات المدنية على مستوى العالم بطبيعة الصراع الفلسطيني- الصهيوني وفي جوهر الحقوق الفلسطينية الفردية والجماعية، وصولا إلى فضح تماهي المجتمع والمؤسسات الدولية مع ممارسات الصهيونية الإجرامية تجاه شعوب المنطقة وعلى رأسها الشعب والأرض الفلسطينية.
طبعا لم ينجح هذا الاستبعاد الرسمي والفصائلي الفلسطيني، في تقويض دور المثقفين النضالي كليا، بقدر ما نجح في كبح أدوراهم وإعاقة جهودهم وزيادة العثرات والصعاب التي تعترض طريقهم، الأمر الذي حد من نتائج نضال المثقفين والأكاديميين والتخصصين على جميع المستويات. فمن السهل تلمس حجم التراجع المعرفي والقيمي والحقوقي في الخطاب الفلسطيني المسيطر إعلاميا واجتماعيا، وفق توجهات الجسم السياسي الفلسطيني الرسمي والفصائلي المحافظة عموما، إن لم نقل الرجعية، والتي تخشى التغيير والتطوير مما يدفعها للتقوقع والانغلاق، وهو ما تبدى اجتماعيا في تنامي قوة العشائر والتوجهات الرجعية والتكفيرية والانعزالية.
كما يسهل ملاحظة كيفية تثبيط وإخفاء نجاحات النخب والمثقفين خارج الدوائر الرسمية والفصائلية، كما في نجاحات الـ BDS ولجان العودة، والحملات الإلكترونية المتعددة كحملات الهبد الإلكتروني مثلاً، والجهود الأكاديمية المبذولة على مستوى العالم، بما فيها تلك التي تخوض صراعات كبيرة مع اللوبي الصهيوني في أكبر الجامعات العالمية وعلى رأسها الجامعات الأميركية. وأيضا نجد عناداً كبيراً في رفض الاستعانة بجهود المثقفين والأكاديميين والمختصين الوطنيين في المعارك الوطنية التي تقتضي وجودهم وقيادتهم لها بشكل كامل، كما في ملف مجابهة الافتراء والتزييف الصهيوني بما يخص المناهج التعليمية، وبما يخص تجريد الشعب الفلسطيني من حقه في المقاومة، وصولا إلى تجريم شهدائنا وأسرانا، وغيرهم الكثير من الملفات ذات الطابع التخصصي شبه المطلق.
لكن رغم التهميش والعثرات التي وضعت في مسار المثقفين والأكاديميين والتخصصيين الوطنيين، صهيونيا وإقليميا ودوليا وللأسف فلسطينياً، بات من الملحوظ تعدد أشكال النضال الثقافي وزيادة فاعليته وتنوع نجاحاته، وصولا إلى اتساع قاعدته الاجتماعية في الآونة الأخيرة، لا سيما في القضايا التي تلامس الحقوق الوطنية والاجتماعية، مثل قضايا التحرر الوطني وحقوق المرأة والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي ومكافحة الفساد. نتيجة عوامل عديدة منها فقدان الثقة والأمل بالجسم الرسمي والفصائلي وصولا إلى نفور الشارع منه ومن خطابه وتوجهاته، وحسن استغلال الوسائل الحديثة وعلى رأسها الفضاء الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي من قبل الأوساط الثقافية، وأيضا كنتيجة مباشرة لصعود الخطاب الحقوقي والتقدمي في المنطقة العربية، في سياق الموجات الثورية التي تعصف بالمنطقة منذ عشر سنوات.
في المحصلة يتحمل الجسم السياسي الفلسطيني مسؤولية الوضع الراهن سياسيا واجتماعيا، بحكم مسؤوليته المباشرة سياسيا واجتماعيا، ونتيجة إصراره على تقويض احتمالات التغيير والتطوير التي تهدد استمراره بذات التركيبة البائسة، مما دفعه لتقويض دور المثقفين الجدليين والنقديين على أسس علمية ومادية، خوفا من فضح ممارساته وأخطائه (أي الجسم السياسي الفلسطيني)، الأمر الذي سرع من وتيرة الانهيار السياسي والاجتماعي فلسطينياً. بل يصر الجسم السياسي الفلسطيني حتى اللحظة على إعاقة مسار التغييرالثوري اجتماعيا وسياسيا، بجميع الوسائل والإمكانيات المتاحة له، بما فيها تحالفه مع قوى خارجية إقليمية ودولية تعادي مصالح شعوب المنطقة التقدمية والتحررية. إلا أن جهود الوطنيين والتقدميين والتحرريين تتصاعد وتتزايد يوما بعد يوم، لتطاول حصون الرجعية والاستبداد والاستسلام والعنصرية والاحتلال والاستغلال، عبر وسائل بسيطة وفردية وبإمكانيات محدودة، مما يوحي بأننا في بداية مخاض صعب وطويل لمرحلة جديدة ومغايرة، سماتها الأساسية تقدمية وتحررية وحقوقية، لا تعترف بمنطق مساومة الغزاة والمستبدين والرجعيين، وتنتصر للمبادئ الحقوقية ولقيم الحرية والعدالة والمساوة دون أي تمايز عرقي أو جنسي أو ديني، فهل ننجح في تكثيف الجهود وتوحيد الطاقات بغرض بلوغ هذه المرحلة بأسرع وقت ممكن؟ التي تتطلب مواجهة تحالف الرجعيين والاستبداديين والاستعماريين والمستغلين محليا وإقليميا وعالميا، وهزيمتهم فكريا وثقافيا وعمليا.