استراتيجية عسكرية فرنسية غامضة في أفريقيا

15 يوليو 2022
ماكرون في اليوم الوطني الفرنسي، أمس (سارة ميسونييه/فرانس برس)
+ الخط -

فتح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الباب أمام تحوّل الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا إلى جهاز أكثر تكتماً، معلناً في كلمة له عشية العيد الوطني الفرنسي، مساء أول من أمس الأربعاء، عن إعادة تقييم لميزانية الجيوش لفترة 2024 ــ 2030، في ظل عودة الحرب في أوروبا.

وبينما تغادر القوات الفرنسية مالي بحلول نهاية الصيف وتنشر آلاف العسكريين لمكافحة المسلحين في منطقة الساحل، رأى ماكرون أن اعتماد "قوات أصغر حجماً وأقل عرضة للخطر" في أفريقيا هو "ضرورة استراتيجية".

وأكد ماكرون في خطابه التقليدي في وزارة الجيوش الفرنسية (وزارة الدفاع) رغبته في "النجاح في بناء علاقة حميمة أقوى مع الجيوش الأفريقية على الأمد الطويل لإعادة بناء القدرة على التدريب هنا وهناك"، مع بقاء القوات الفرنسية في الصف الثاني، في ظلّ نية باريس إعداد جيوشها للنزاعات الحادة مثل الحرب التي تدور في أوكرانيا.

وشدّد الرئيس الفرنسي على الحاجة إلى "استمرارية بين عرضنا الدبلوماسي وتحركاتنا المتجددة للشراكة الأفريقية وإجراءاتنا التنموية" في أفريقيا.

وقال "إنها نقلة نوعية عميقة". وأعلن الرئيس الفرنسي أيضاً عن إعادة تقييم لاحتياجات الميزانية في مجال الدفاع، عبر قانون جديد للبرمجة العسكرية (2024 ــ 2030) أكثر ملاءمة "لاحتمال عودة مواجهة أكثر حدة". وقال إن صياغة النص "يفترض أن تكتمل في نهاية هذا العام"، ثم "يناقش مع البرلمان" في أوائل 2023.

تطور ميزانية الجيش

وكان ماكرون قد بدأ مع مطلع ولايته في عام 2017 إدخال زيادة حادة على اعتمادات الدفاع بعد سنوات من القلة. وستسجل ميزانية الجيوش نمواً أكبر في 2022 قبل أن يرتفع بمقدار ثلاثة مليارات في 2023 لتصل إلى 44 مليار يورو.

وأخيراً، طلب من الجيوش "بذل المزيد" لتطوير "الخدمة الوطنية الشاملة" التي تستهدف الشباب، من أجل حشد "المجتمع الفرنسي بأسره" في مواجهة التحديات المطروحة عليهم.

وقال ماكرون إن "الأمر لا يتعلق بعسكرة الشباب ولا حتى المجتمع، بل بالوقت الذي تحتاج فيه الأمة إلى البحث عن لب تاريخها ومعناه العميق. الجمهورية تحتاج إلى أن تبذلوا مزيداً من الجهود".


ماكرون: اعتماد قوات أصغر حجماً وأقل عرضة للخطر في أفريقيا هو ضرورة استراتيجية

وكان برنامج "الخدمة الوطنية الشاملة" أحد وعود حملة ماكرون عام 2017. وبعد تجربة أولى مع ألفي متطوع شاب تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عاماً، ثم إلغاء دورة في 2020 بسبب وباء كورونا، شارك 15 ألف شاب الصيف الماضي في دورات تلاحم في جميع أنحاء فرنسا.

وتهدف "الخدمة الوطنية الشاملة" هذا العام إلى أن تشمل خمسين ألف شاب في المجموع. لكن هذا المشروع بعيد عن تحقيق إجماع بين نقابات المدارس الثانوية والجيوش، التي تعمل أصلا على جبهات متعددة.

وجاء تصريح ماكرون، مع الإعلان، أول من أمس الأربعاء، عن توجه مسؤولين فرنسيين إلى النيجر، اليوم الجمعة، لإعادة تحديد استراتيجية البلاد لمحاربة المتشددين في منطقة الساحل الأفريقي، مع استكمال قوات تقدر بالألوف للانسحاب من مالي، وتزايد المخاوف بخصوص التهديد المتزايد للدول الساحلية في غرب أفريقيا.

ومن المفترض أن تصل وزيرة الخارجية الفرنسية الجديدة كاثرين كولونا ووزير الدفاع سيباستيان ليكورنو إلى النيجر، اليوم، لإتمام عملية إعادة انتشار إقليمية.

وستصبح النيجر مركزاً للقوات الفرنسية، إذ يتمركز زهاء ألف جندي في العاصمة نيامي مع طائرات مقاتلة ومسيرة وهليكوبتر. وقال مسؤولون فرنسيون للصحافيين في إفادة، إنه سيتم إرسال بين 300 و400 جندي للقيام بعمليات خاصة مع قوات من النيجر، في المناطق الحدودية مع بوركينا فاسو ومالي.

وسيتمركز أيضاً ما بين 700 و1000 جندي آخرين في تشاد، مع عدد لم يكشف النقاب عنه من أفراد القوات الخاصة العاملة في أماكن أخرى بالمنطقة.

وقال المسؤولون إن القوات الفرنسية لن تقوم بعد الآن بمهام أو تلاحق المسلحين في مالي بمجرد اكتمال الخروج. وكشف مصدر دبلوماسي فرنسي أن الهدف هو تقديم استراتيجية جديدة لماكرون في سبتمبر/أيلول المقبل.

واعتبر مسؤولون فرنسيون أن العبء سيكون على عاتق دول المنطقة لقيادة الأمن، مع التركيز أيضاً على التنمية والحكم الرشيد والتعليم. وسيتم الإعلان عن تقديم مساعدات بقيمة 50 مليون يورو لتعزيز شبكة الكهرباء في النيجر ودعم الميزانية.

وأوضحت كولونا أن ليكورنو سيتوجه، غداً السبت، إلى ساحل العاج، التي تستضيف قوات فرنسية أيضاً، بينما من المرجح أن يسافر ماكرون إلى بنين في نهاية شهر يوليو/تموز الحالي. وتتمتع فرنسا القوة الاستعمارية السابقة في عدد من الدول الأفريقية، بوجود عسكري قوي هناك. وبالإضافة إلى التزامها في منطقة الساحل في أوج عملية إعادة هيكلة، نشرت عناصر لها في السنغال والغابون وجيبوتي.

وذكرت صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية، أمس، أن "ماكرون أراد إيصال رسائل إلى الجيش الفرنسي، خصوصاً أن الحرب في أوكرانيا والانسحاب الفرنسي من مالي، أخلّا بتوازن فرنسا في العالم، فضلاً عن التشكيك في مرونتها الوطنية".

واعتبرت الصحيفة أن "ماكرون يحب الكلمات التي يقدّرها الجيش، مثل الانضباط، والنظام، واحترام التقاليد". وذكرت "لو فيغارو" أن "رئيس الجمهورية لم يفصّل الخطوط العريضة الجديدة لمشروعه، واعداً بوسائل مالية كافية. لكنه لا يزال بحاجة إلى الإقناع".

التراجع الفرنسي في مالي

وكانت فرنسا الشريك الرئيسي لمالي، لكن القوة الاستعمارية السابقة أصبحت غير مرغوب فيها وتستعد لمغادرة الدولة الأفريقية خلال أسابيع. وطرد المجلس العسكري الحاكم في مالي منذ 2020 الجيش الفرنسي واستدعى الروس عبر مرتزقة "فاغنر"، على الرغم من نفي باماكو ذلك.

ومع فك ارتباطها بمالي، ستكون فرنسا قد قلصت وجودها في منطقة الساحل إلى النصف، من خلال الإبقاء على حوالي 2500 جندي فقط في المنطقة. لكن باريس تقول منذ أشهر إنها لا تتخلى عن الحرب ضد الإرهاب وتتحدث مع دول الساحل وخليج غينيا للتحضير لأشكال جديدة من التدخل.

وأضعفت الانقلابات العسكرية في مالي وتشاد وبوركينا فاسو تحالفات فرنسا في مستعمراتها السابقة، وشجعت المتشددين الذين يسيطرون على مساحات شاسعة من الصحراء ومناطق الغابات، كما فتحت الباب أمام نفوذ روسي أكبر.

وتزايدت المخاوف من أن خروج 2400 جندي فرنسي من مالي، مركز العنف في منطقة الساحل ومعقل تنظيمي القاعدة وداعش، سيؤدي إلى تفاقم العنف ويزعزع استقرار الدول المجاورة ويحفز الهجرة. ومع توقع اكتمال الانسحاب بحلول نهاية الصيف.


ينوي ماكرون توسيع مفهوم الخدمة الوطنية الشاملة

وكان قائد قوة "برخان" الفرنسية في مالي، الجنرال لوران ميشون، قد ذكر في 5 يوليو الحالي، في حديثٍ لوكالة "فرانس برس" وإذاعة "فرنسا الدولية"، أن الجيش الفرنسي ينوي تغيير طريقة تحركه في منطقة الساحل بعد انسحابه من مالي، عارضاً الآن توفير "الدعم" وليس الحلول مكان القوات المحلية.

وكشف أن عديد العسكريين الفرنسيين سيتراجع إلى 2500 فقط في منطقة الساحل في ختام عملية الانسحاب، التي تفتح الباب أمام رحلة تعاون معزز مع دول المنطقة الأخرى وفقا لحاجاتها. وأضاف: "سنكون قادرين على مغادرة مالي بحلول نهاية الصيف كما طلب الرئيس إيمانويل ماكرون".

وأكد أن "إجراءات الاستقبال في النيجر باتت جاهزة. لن نقوم بإعادة نشر قوة برخان في النيجر، لكن على الصعيد اللوجيستي نحتاج للمرور عبر هذا البلد. التهديد الإرهابي ليس كبيراً جداً على محور غاو- نيامي. الجماعات المسلحة تستعيد قواها لا سيما تنظيم داعش في الصحراء الكبرى، لأننا لم نعد نتحرك لإصابة عموده الفقري. إذا التهديد ماثل، ولكن يمكن السيطرة عليه أكثر لأن هذا الممر تستخدمه كثيراً قوة مينوسما (بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي) والجيش المالي وقوة برخان".

ونفى ميشون أن يكون الانسحاب الفرنسي يمثل فشلاً، وقال موضحاً: "كانت مهمتنا جعل القوات المالية قادرة على مواجهة العدو. انتقل عديد الجيش المالي من سبعة آلاف إلى 40 ألف جندي وشاركت قوة برخان في الرفع من شأنه مع المساعدة على عدم سيطرة الجماعات الإرهابية على الثكنات".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)

المساهمون