شرعت السلطات السودانية، أخيراً، في تنفيذ حملة سياسية وأمنية واسعة النطاق ضد حزب "المؤتمر الوطني" المنحل، حزب الرئيس المعزول عمر البشير، شملت اعتقال عدد من قياداته في المركز والولايات. جاءت الحملة بعد احتجاجات شعبية، خلال الأيام الأخيرة، في عدد كبير من المدن السودانية، مثل القضارف، وبورتسودان شرق البلاد، والأبيض، وأم روابة، والرهد في ولاية شمال كردفان، والفاشر ونيالا والضعين، ومحلية بحر العرب، وكلها في إقليم دارفور. كما امتدت الاحتجاجات بشكل محدود إلى العاصمة الخرطوم، ومدينة عطبرة، شمالي البلاد. لم تأخذ تظاهرات تلك المناطق طابعاً سلمياً، كما حدث بالنسبة للتظاهرات ضد نظام البشير قبل نحو عامين، ولا حتى التظاهرات التي خرجت ضد الحكومة الانتقالية الحالية منذ تشكيلها في 2019.
وتحوّلت غالبية التظاهرات في الأيام الأخيرة إلى انفلات أمني، رافقته عمليات نهب وسلب للمحال التجارية وتخريب للممتلكات العامة وحرق للسيارات الخاصة والحكومية. وهو ما وثقته الكثير من مقاطع الفيديو التي انتشرت في وسائط التواصل الاجتماعي، وأكده شهود عيان من تلك المناطق النائية عن المركز. ولم تتردد كل حكومات الولايات والحكومة المركزية والتحالفات الحاكمة في توجيه أصابع الاتهام لعناصر "المؤتمر الوطني" المنحل بالتورط فيما جرى، بالتخطيط والتمويل والتنفيذ. وسارعت السلطات إلى إغلاق المدارس وإعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجول في المدن الرئيسية. كما اتهمت قوى سياسية القوات الأمنية بالتباطؤ في التعامل مع الانفلات الأمني، وذلك في إطار تصفية الحسابات بين المكونين العسكري والمدني في السلطة الانتقالية. ويريد المكون الأول تحميل الثاني مسؤولية الأزمات المعيشية، وهي العامل الرئيس في تحريك الشارع.
الحزب المنحل "يراقب بقلق انتهاكات قوى الحرية والتغيير"
من جهتها، أصدرت لجنة إزالة التمكين ومحاربة نظام 30 يونيو، نظام البشير، منشوراً لكل الولايات ووكلاء النيابات بسرعة القبض على كل الناشطين من قيادات الحزب المنحل. كما أمر ولاة الولايات، حتى التي لم تمتد إليها الاحتجاجات وعمليات التخريب، بمراقبة عناصر وقيادات "المؤتمر الوطني" تحسباً لتكرار الأحداث في ولاياتها. مع بداية تنفيذ تلك التوجيهات، بدأت حملة اعتقالات، لتشمل في المركز كلاً من حسبو محمد عبد الرحمن، النائب الأسبق لرئيس الجمهورية، وأحد قيادات حزب البشير، والقيادي البارز في الحزب أمين حسن عمر، والصحافي المحسوب على الحزب حسين خوجلي، الذي يمتلك قناة "أم درمان" الفضائية وصحيفة "ألوان" السياسية المتوقفة عن الصدور.
وكشفت مصادر لـ"العربي الجديد"، أن هناك أكثر من 44 بلاغاً جنائياً تم تدوينه بواسطة شرطة المباحث ضد قيادات وكوادر الحزب في ولاية الخرطوم وحدها، بتهم إثارة النعرات وتقويض النظام الدستوري، ومن المتوقع إلقاء القبض عليهم خلال الفترة المقبلة. ولم تكتف سلطات العاصمة بالإجراءات القانونية وحدها، بل نشرت وحدات من الشرطة بشكل كثيف منذ يوم الجمعة الماضي، تحسباً لحدوث انفلات أمني مماثل لما حدث في مدن أخرى. أما في ولاية القضارف، شرق السودان، والتي شهدت انفلاتاً أمنياً غير مسبوق، فقد جرى توقيف 9 من قيادات حزب "المؤتمر الوطني"، من وزراء سابقين، وقيادات أخرى من أحزاب معارضة، وإمام مسجد واثنين من الصحافيين، ولوّحت السلطات هناك بتقديمهم للمحاكمة. وفي ولاية شمال كردفان، وحسب شرطة الولاية، ألقي القبض على 100 من المشتبه في تورطهم في الأحداث، في كل من مدينتي الأبيض وأم روابة داخل الولاية. ولاحقاً أصدر والي الولاية خالد مصطفى قراراً بملاحقة كل الناشطين من أعضاء "المؤتمر الوطني"، واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، مشيراً إلى أن حملة اعتقالات واسعة بدأت منذ مساء الأربعاء الماضي لرموز وقيادات النظام البائد التي تم رصدها ومتابعتها بتنفيذ المخططات في جميع أنحاء الولاية، وسوف يتم اتخاذ إجراءات بحق كل من تثبت إدانته أو ضلوعه في الأحداث وسيقدمون لمحاكمات فورية. وأكد أن من يقود هذا العمل هو خائن للوطن وحكومة الثورة والفترة الانتقالية وجريمة ضد الإنسانية، وهو ذات الإجراء التي اتخذ في ولايات أخرى.
وتفتح كل تلك الإجراءات بتقديرات الكثيرين، الباب أمام مواجهة جديدة أكثر حدة بين الحكومة والنظام السابق، الذي لا تزال الكثير من مفاتيح اللعبة السياسية وبطاقات الضغط بيده. ومنذ قرار حله وحظر نشاطه في ديسمبر/كانون الأول 2019، لجأ حزب "المؤتمر الوطني" إلى العمل السري، وإخفاء قياداته أو سفرهم للخارج، لا سيما بعد اعتقال وتوقيف قيادات الصف الأول، مثل عمر البشير وعلي عثمان ونافع علي نافع وإبراهيم غندور وأنس عمر وعوضة الجاز والزبير أحمد حسن وآخرين. لكن بصمة الحزب بدت واضحة في الحراك المستمر والمناوئ لحكومة عبد الله حمدوك، وهو حراك يأخذ أشكالاً مختلفة، سياسياً وإعلامياً وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، كما لا يستبعد البعض تأثير الحزب على الأوضاع الاقتصادية والخدمات العامة لوجود أيادٍ له داخل تلك القطاعات.
وفي بيان له رداً على حملة الاعتقالات واتهام كوادره بالتورط في عمليات الانفلات الأمني، قال "المؤتمر الوطني" إنه ومنذ ترجله عن السلطة "يراقب بقلق انتهاكات قوى الحرية والتغيير للشرعية الدستورية، وتسييس مؤسسات العدالة ومحاولات إعلاء صوت واحد بتعطيل المحكمة الدستورية، وإقصاء الحزب ومحاولة طمسه من الحياة السياسية، متناسين وزنه الجماهيري وثقله المجتمعي". وأعلن حرصه على "حفظ أمن البلاد وحقن الدماء في السودان، على الرغم من اعتقال قيادات الحزب ومصادرة أصوله ودوره والتضييق على عضويته وتخصيص لجنة غير دستورية ولا قانونية اتخذت منهجاً استفزازياً وتجاوزت الأعراف الدستورية والقانونية لتمارس سلطات القضاء وتنفيذ القانون والنيابة بتشف ممنهج ضد عضوية الحزب". وأكد أنّ "الانضباط الكامل والالتزام الصارم بسلمية المعارضة التي يؤمن بها الحزب هي ما كان وسيكون صوناً لمصلحة البلاد العليا والتزاماً اخلاقياً لحزب قائد لمجتمع رائد".
واعتبر الحزب أن "تلك الحالة من الهستيريا السياسية للنظام القائم في مواجهة فشله وتشرذمه خلف عدو وهمي باتهامات عدة، وتلفيق مستمر وحملة مشبوهة ومشوهة ومحاولات تخريبية للحراك السلمي للجموع التي خرجت بصدق من كافة ولايات السودان ضد سياساتهم الرعناء، ما هي إلا محاولة للتستر خلف الفشل المستمر في الاقتصاد ومعاش الناس، وهروباً من حالة الخذلان المخزي لتطلعات الجماهير". وأضاف أنه "يدرك حالة الهشاشة التي تعيشها البلاد، ومنذ تأسيسه كان حزباً مسؤولاً تتقدمه كفاءات وطنية وسياسية وأهل دراية بالحكم، وكان وما يزال حريصاً على استقرار السودان وسلامة أهله والمحافظة على إنجازاته ولن ينجر إلى أعمال التخريب والتدمير لمقدرات البلاد وأصولها، كما لن يسمح بالاستهانة او المساس بعضويته أو النيل منهم خارج إطار القانون، وسيتخذ كافة السبل القانونية في ذلك". واعتبر أن "التخطيط لتحويل غضب الجماهير المشروع إلى كارثة تقضي على مكتسبات الشعب، هو من صميم تدبير من يئسوا من السيطرة على مجريات الأوضاع في الدولة وخرجوا للعلن بنوايا تدميرية، لا تنتهي عند القضاء على الحكومة بل تمتد لتشمل المؤسسات العسكرية والأمنية".
وعن ذلك، قال القيادي في الحزب محمد الحسن الأمين، لـ"العربي الجديد"، إن كل التوقيفات هي عمل سياسي بعيد عن القانون، إذ يتم الاعتقال على أساس الانتماء السياسي والتنكيل بالخصوم، ومخالف في الوقت نفسه لما رُفع من شعارات ثورية في السابق عن "الحرية والعدالة". وأكد قدرة الحزب على مواجهة ذلك سياسياً وقانونياً وعبر الطرق السلمية المشروعة. وأضاف الأمين أن السلطات لم تقدّم أي أدلة على تورط قيادات أو أعضاء في الحزب في الأحداث الأخيرة، التي عزاها إلى حالة الفشل الاقتصادي والأمني للحكومة التي أوصلت المواطنين إلى مرحلة الجوع، ولا يمكن بعد ذلك أن تجعل من الآخر شماعة لإخفاقاتها، وفق قوله. ووجدت الاعتقالات لعناصر "المؤتمر الوطني" اعتراضاً من قوى معارضة أخرى، مثل حزب "المؤتمر الشعبي" الذي عد الخطوة أمراً سياسياً خارج القانون، وحذر من خطورتها، معتبراً أنها ستزيد البلد اشتعالاً، وستؤدي إلى دخول البلد دائرة أخذ القانون باليد. ووجّه انتقادات لمؤسسات العدالة بالبلاد، مُستهجناً تأخير عملها القانوني، وطالب مجلس السيادة بإقالة النائب العام وتقديمه للمحاكمة، مشدداً على وقف أي اعتقالات إلا وفق القانون الجنائي.
تحوّلت غالبية التظاهرات في الأيام الأخيرة إلى انفلات أمني
وبطريقة مختلفة، أبدت جهات داخل قوى الثورة رفضها لما حصل، مثل نائب رئيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، ياسر عرمان، الذي غرد في حسابه على "تويتر"، قائلاً إن اعتقال قيادات "المؤتمر الوطني" يجب ألا يتم على طريقته بالاعتقال التحفظي والاستثنائي وخارج القانون. وطالب السلطات بتوجيه تهم واضحة وفق إجراءات قانونية سليمة.
لكن القيادي في تحالف قوى "إعلان الحرية والتغيير" معز حضرة، نفى لـ"العربي الجديد" وجود أي استهداف للخصوم السياسيين عبر الإجراءات الأخيرة، منوهاً إلى أنها ليست اعتقالات إنما أوامر قبض عادية صادرة من النيابات وفق معلومات أولية ولم تصدر من جهة عسكرية أو أمنية. كما نفى أن يكون في تلك الإجراءات أي نوع من أنواع الخيانة للثورة ومبادئ "الحرية والعدالة"، وأن جماهير الشعب السوداني تدرك ذلك تماماً وتفرق بين حرية التعبير السلمي وعمليات التخريب الممنهج الذي تم الأسبوع الماضي. يوافق على ذلك القيادي في الحزب "الجمهوري" حيدر شبو، الذي أوضح لـ"العربي الجديد" أن حملة توقيف قيادات "المؤتمر الوطني" تمت بتوجيه من ولاة الولايات الذين توفرت لهم معلومات عن مخططات تخريبية تتجاوز الاحتجاجات السلمية ضد تردي الأوضاع المعيشية إلى حد التخريب.