يجري الحديث منذ أسابيع عن احتمال عودة قريبة للولايات المتحدة وإيران، إلى اتفاق نووي معدل بديل لذلك الذي انسحبت منه إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في 2018.
وعلى الرغم من نفي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، يوم الجمعة الماضي، صحة ودقة الأخبار حول هذا الأمر، فإن هناك إشارات إلى تقدم كبير. ومع أن الطرفين الأميركي والإيراني ظلا ينفيان احتمال الاتفاق المعدل، حتى الإثنين الماضي، إلا أن طهران أكدت الانخراط في محادثات غير مباشرة مع الولايات المتحدة بوساطة عُمانية.
وأول إشارة جادة إلى تقدم المباحثات هي إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مساء الثلاثاء الماضي، ما يشبه الخبر اليقين، عندما تحدث عن موقف حكومته مما سماه "الاتفاق المتبلور" بين واشنطن وطهران. وقال إنه يشمل الإفراج عن بعض المليارات من الدولارات من الودائع الإيرانية في البنوك الخارجية، مقابل التزام طهران بعدم زيادة مستوى تخصيب اليورانيوم، وتبادل الأسرى.
وقبل أن يعلن نتنياهو عن الاتفاق استضافت أبوظبي، الإثنين الماضي، اجتماعاً رباعياً، ضم مساعدي وزراء خارجية كل من إيران وفرنسا وألمانيا وبريطانيا. وأوضحت وزارة الخارجية الألمانية في بيان أن اللقاء الذي عقد في العاصمة الإماراتية "تطرّق إلى مروحة واسعة من المواضيع بينها البرنامج النووي الإيراني".
يبدو أن إيران أقلعت عن منهج المفاوضات السابق وباتت تتبع سياسة المراحل وتجزئة القضايا
وسبق أن التقت الأطراف الأربعة في الإطار نفسه في أوسلو في مارس/آذار الماضي، من دون الإعلان أن اللقاء في إطار إحياء محادثات متمحورة حول الملف النووي بين إيران والدول الثلاث في مجموعة "5+1" التي توصلت مع طهران إلى اتفاق 2015 النووي.
تحسن العلاقات بين الأوروبيين والإيرانيين
وبدأت خطوات التحسن في العلاقات بين الأوروبيين والإيرانيين في الأسابيع الأخيرة، بعد إفراج السلطات الإيرانية عن ستة سجناء أوروبيين، واستعادة طهران دبلوماسياً إيرانياً مداناً بالإرهاب كان مسجوناً في بلجيكا، وذلك في إطار خطوات بناء الثقة بين الجانبين.
وحسب ما تسرّب حتى الآن، فإنّ الإيرانيين، استناداً إلى التفاهمات المطروحة، مستعدون لوقف تخصيب اليورانيوم بنسب عالية مقابل تخفيف العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على إيران. كما تنص التفاهمات المتبلورة، على أن الولايات المتحدة مستعدة للسماح بالإفراج عن 20 مليار دولار من الودائع الإيرانية في بنوك بالخارج، لا سيما في بنوك كوريا الجنوبية والعراق وصندوق النقد الدولي.
وحسب أوساط مطلعة، فإنه جرى تحرير بعض الأموال من العراق قبل التوصل للاتفاق بقيمة 2.7 مليار دولار من الأرصدة الإيرانية المجمّدة بعد موافقة أميركية، بينما سمحت طهران بزيادة صغيرة، لكنها غير كافية، في المراقبة الدولية لبرنامجها النووي.
واشنطن سعت للتوصل لمشروع الاتفاق النووي الحالي
وهناك نقطة مهمة جداً في مشروع الاتفاق الحالي، وهي أن واشنطن من سعت إليه، وطلبت رسمياً من عُمان التوسط لدى إيران، بهدف التوصل إلى اتفاق نووي مؤقت. وأوفدت مسؤول ملف الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماكغورك، الذي زار عُمان سراً قبل ثلاثة أسابيع، ناقش خلالها إمكانية أن تتوسط مسقط لدى طهران، وتبحث مدى استعدادها لفرض قيود على برنامجها النووي، ووقف التصعيد في المنطقة. وقال موقع "واللا" الاسرائيلي إنّ ماكغورك حثّ القيادة العمانية على معرفة الثمن الذي تطلبه إيران مقابل موافقتها.
وأول طلب شبه رسمي جاء على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي طالب إيران بوقف دعم روسيا عسكرياً. وفي اتصال مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي دعا إيران إلى "إنهاء دعمها فوراً" لروسيا في حرب أوكرانيا، منبهاً، حسب الرئاسة الفرنسية، إلى "خطورة التداعيات الأمنية والإنسانية على السواء لتزويد إيران روسيا بطائرات مسيّرة".
وسبق ذلك تصريح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، أن روسيا "تتلقى مواد من إيران لبناء مصنع للطائرات المسيّرة" على أراضيها، وأن هذه المنشأة "قد تتمكن من العمل بطاقتها الكاملة مطلع العام المقبل".
لكن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، رفض الاتهامات الأميركية والأوروبية بشأن دعم روسيا في حربها على أوكرانيا، وهي ورقة تمكنت طهران من استخدامها بشكل جيد، وساعدت موسكو على إلحاق ضرر فعلي بأوكرانيا، وتلقت الثمن مقابلها من واشنطن. وإلى حد الآن تبدو طهران هي الكاسب الأكبر من حرب روسيا على أوكرانيا.
إيران تتبع سياسة تجزئة القضايا
ما تحتاجه طهران في هذه المرحلة الكثير، ولكن يبدو أنها أقلعت عن منهج المفاوضات السابق الذي اتبعته مع الأطراف الغربية لإحياء الاتفاق النووي، والذي كان يقوم على كل شيء أو لا شيء. ويبدو أنها باتت تتبع سياسة المراحل وتجزئة القضايا.
وتبدو الأولوية في هذه المرحلة للإفراج عن مليارات الدولارات المجمّدة في البنوك الغربية، وليس الرفع الكامل للعقوبات الغربية، ما يعني ترك هذا الملف إلى مرحلة ثانية، وتتصرف طهران بثقة من أنها ستنجح في علاجه، طالما أن سياسة حافة الهاوية التي تمارسها أعطت نتائج مهمة حتى الآن.
وتتبع طهران في هذه الفترة سياسة براغماتية، تقوم على أخذ أكبر قدر من التنازلات والمكاسب من الإدارة الأميركية الحالية قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في خريف عام 2024، خصوصاً أنه من غير المضمون فوز الرئيس الحالي جو بايدن بولاية رئاسية ثانية.
تعد إيران الرابح الأكبر في حال تم التوصل إلى الاتفاق الجزئي
واشنطن بدورها تريد تحقيق إنجاز يتعلق بإحياء الاتفاق النووي مع إيران، وسعت إدارة بايدن إلى ذلك منذ وصولها البيت الأبيض. وحينما تعثرت بالاعتراضات الإسرائيلية ومعارضة داخلية في الكونغرس، والشروط الإيرانية الشديدة، باتت ميالة إلى تخفيض سقف طموحاتها، ولذلك لجأت إلى الصيغة الحالية.
يريد بايدن أن يسجل لولايته الرئاسية الأولى إنجاز العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، حتى ولو كان جزئياً، ليُظهر بأنه احتوى برنامج إيران النووي، ولم يغضب إسرائيل وبعض أصدقاء الولايات المتحدة من دول الخليج، خصوصاً السعودية والإمارات، اللتين لم تعودا عند نفس الدرجة من معارضة الاتفاق، بدليل أن أبوظبي استضافت المباحثات الإيرانية الأوروبية، والرياض سارت في نهج تطبيع العلاقات مع طهران.
واحدة من العقبات التي حالت دون إحياء الاتفاق النووي هو موقف إسرائيل، التي عارضت بشدة، وهددت بشن حرب على المشروع النووي الإيراني، وهذا أحد الأسباب الذي دفع واشنطن إلى الاتجاه لعقد اتفاق جزئي مع طهران. كما أنها تفاهمت مسبقاً مع تل أبيب على النقاط الأساسية، كما يبدو من ردود فعل المسؤولين ووسائل الإعلام في إسرائيل.
نتنياهو يعرب عن إمكانية التعايش مع اتفاق نووي
وعلى هذا الأساس أعرب نتنياهو عن إمكانية تعايش إسرائيل مع الاتفاق، وحتى يحفظ خط الرجعة، فإنه قال إنه لا يلزمها. وحسب تقديرات تل أبيب فإنّ الاتفاق "المؤقت" لا يسمح بفرض نظام تفتيش دولي بالمستوى المطلوب، فضلاً عن أنه لا يعني أن توقف إيران برنامجها النووي، "ولن يقلص مستوى المخاطر التي يمثلها هذا البرنامج".
وقالت صحيفة "هآرتس"، في 10 يونيو/حزيران الحالي، إنّ بعض المسؤولين في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية يرون أنّ هذا الاتفاق "في حال تم" يعد أفضل الخيارات المطروحة في الوقت الحالي، من منطلق أنّ التوصل لهذه التفاهمات أفضل من مواصلة إيران التقدم في برنامجها النووي.
وتعد إيران هي الرابح الأكبر، في حال تم التوصل إلى الاتفاق الجزئي وفق ما تسرب حتى الآن، وسيسجل لها أنها كسبت جولة أساسية في المواجهة بين إدارة بايدن وطهران بقيادة إبراهيم رئيسي، الذي غيّر منهج التفاوض منذ وصوله إلى الحكم في أغسطس/آب 2021.
كانت واشنطن قد وضعت خطة تفاوضية لإحياء الاتفاق تقوم على ثلاثة أسس، الأول هو إحياء اتفاق 2015 بشروطها. والثاني هو استخدام سلاح العقوبات لفرض شروطها. والثالث هو منع أسوأ النتائج المحتملة للمشروع النووي الإيراني، مع ترك الباب مفتوحاً لحل في المستقبل. وربما هذا ما يفسر موقف إسرائيل بأن الاتفاق لا يلزمها. وهذا إقرار صريح من واشنطن وتل أبيب بأنه على الرغم من أن الوضع الراهن ليس جيداً، إلا أن البدائل قد تكون أسوأ بكثير.
وأبرز المخاوف المتداولة هي أن النهج الأميركي سوف يتيح لإيران تجاوز العزلة الاقتصادية وتطوير برنامجها النووي، بما يجعل منها دولة نووية في الانتقال إلى العتبة الأخيرة، وهي تطبيع وضعها النووي وامتلاك السلاح النووي.
ليس أمام واشنطن والعواصم الغربية المعنية سوى العمل في المرحلة المقبلة على منع إيران من الوصول إلى السلاح النووي، وهذه مسألة تبقى خاضعة لتوازن القوى، وتهدد بسيناريوهات سيئة في الشرق الأوسط خلال المستقبل القريب.
وثمة مسألة مهمة وهي أن طهران تحصل بموجب الاتفاق الجديد على ما تريد من دون أن تدفع أي ثمن تقريباً. على العكس من ذلك، فقد تحسن موقعها الجيوسياسي، وعززت العلاقات مع الصين وروسيا، وقامت بتطبيع العلاقات مع بعض جيرانها، بما في ذلك منافستها الإقليمية السعودية. وهذا ما يجعل من طموحها بتصنيع سلاح نووي أمراً غير مستحيل طالما نجحت في إتقان لعبة حافة الهاوية. وقد يستغرق ذلك عامين وفق أبعد التقديرات الإسرائيلية والغربية. وقد يكون العكس، إذا رأت إيران أن الفائدة التي تجنيها من استمرار التلويح بالسلاح النووي أهم من تلك التي تعود إليها من امتلاكه، خصوصاً أن ذلك قد يعرضها للخطر.