على وقع قرع طبول الحرب بين روسيا وأوكرانيا، تتكثّف الجهود الدبلوماسية من أجل تجنّب "الخيار الأسوأ". ومع نفي روسيا أي نيّة لديها لغزو أوكرانيا، فإنها تشدّد في المقابل، على ضرورة تنفيذ اتفاقيات مينسك لحل الأزمة المتواصلة في شرقي أوكرانيا منذ ربيع 2014، فيما تحذّر كييف من أن تنفيذ هذه الاتفاقيات يعني "تفتيت البلاد".
وتمّ التوصل لهذه الاتفاقيات في عامي 2014 و2015، في العاصمة البيلاروسية مينسك. وجرى توقيع الاتفاق الأول في 5 سبتمبر/أيلول 2014، إلا أنه لم يتم الالتزام به، بل خُرق بعد ساعات فقط على توقيعه بسبب المعارك التي دارت في إقليمي لوغانسك ودونيتسك في منطقة دونباس، شرقي أوكرانيا.
بعدها، تم التوصل إلى اتفاق "مينسك 2" في 12 فبراير/شباط 2015، ووقّع عليه الرئيس الأوكراني السابق ليونيد كوتشما ممثلاً عن الحكومة الأوكرانية، وممثلين عن الانفصاليين، وممثلة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والسفير الروسي لدى أوكرانيا حينها ميخائيل زورابوف.
قمة رباعية تمهّد لاتفاق "مينسك 2"
وسبق توقيع "مينسك 2" قمة رباعية بين قادة ألمانيا وفرنسا وروسيا وأوكرانيا في مينسك، في 11 و12 فبراير 2015، وتزامناً مع القمة عملت فرق فنّية على صياغة اتفاقيات جديدة لتثبيت وقف إطلاق النار وإيجاد تسوية سياسية للأزمة في دونباس.
وتوصل المفاوضون إلى اتفاق رحّب به قادة روسيا فلاديمير بوتين، وأوكرانيا بيترو بورشينكو، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، وأصدروا إعلاناً دعموا فيه الإجراءات التي تم التوصل إليها بين المفاوضين لتنفيذ الاتفاقيات.
وأكد "مينسك 2" الاتفاقيات الجديدة على البنود السابقة في "مينسك 1"، مع تعديل بعض الفقرات، وفي 17 فبراير 2015، تبنّى مجلس الأمن القرار 2202 الذي صادق فيه على حزمة الإجراءات الخاصة بتنفيذ الاتفاق.
حرم أحد البنود كييف من الاستفادة من مناطق استعادتها من الانفصاليين
وتضمن "مينسك 2"، 13 بنداً وفقرة توضيحية تحت عنوان "مجموعة من الإجراءات من أجل تنفيذ اتفاقيات مينسك". ومن أهم البنود، الوقف الفوري والشامل لإطلاق النار في منطقتي دونيتسك ولوغانسك.
وطالبت الاتفاقيات بتوسيع المنطقة الأمنية التي يُحظر فيها على الجانبين نشر المدفعية الثقيلة، حتى مسافة تتراوح بين 30 و50 كيلومتراً مناصفة على خطوط التماس حينها، وعلى مسافة 70 كيلومتراً لأنواع محددة من الصواريخ. وهو بند يحرم الحكومة المركزية في أوكرانيا من الاستفادة من المناطق التي أعادتها إلى سيطرتها من الانفصاليين.
كما نصّت الاتفاقيات على انسحاب جميع التشكيلات المسلحة الأجنبية، والمعدات العسكرية، وكذلك المرتزقة من أراضي أوكرانيا تحت إشراف منظمة "الأمن والتعاون في أوروبا"، إضافة إلى نزع السلاح غير الشرعي لكل الجماعات. وتضمّنت بنوداً أخرى حول تبادل الأسرى وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية.
وفي حين لم تبرز خلافات حول البنود السابقة على الرغم من عدم تنفيذها عملياً، فإن الجدل احتدم حول الفقرات الداعية إلى حوار بشأن طريقة تنظيم انتخابات محلية وفقاً للتشريعات الأوكرانية وقانون أوكرانيا حول "النظام المؤقت للحكم الذاتي المحلي في مناطق معينة من منطقتي دونيتسك ولوغانسك"، وكذلك على تحديد الوضع المستقبلي لهذه المناطق.
ووفقاً للاتفاقيات، يجب أن يتفق ممثلو الإقليمين الانفصاليين مع الحكومة المركزية على أسس هذا القانون، على أن تتم صياغته في وثيقة تمنح المناطق المُسيطَر عليها من قبل الانفصاليين وضعاً خاصاً.
ونصت الاتفاقيات على أن الحكومة الأوكرانية لن تستعيد السيطرة الكاملة على حدود الدولة في جميع أنحاء منطقة النزاع، إلا في اليوم الأول بعد تنظيم انتخابات محلية إثر التعديلات الدستورية، التي تمنح المنطقتين وضعاً خاصاً حددته فقرة إضافية توضيحية.
وأهم بنود هذه الفقرة: منح سكان المنطقتين الحق في تحديد اللغة التي يتم التعامل بها محلياً، ومشاركة الحكومات المحلية في تعيين رؤساء المدعين العامين والمحاكم في مناطق معينة من منطقتي دونيتسك ولوغانسك، فضلاً عن موافقة السلطات المركزية على استمرار التعاون العابر للحدود بين المنطقتين ومناطق روسيا المحاذية لها.
ومن البنود أيضاً: حق السلطات المحلية في إنشاء مقرات من المليشيات الشعبية التي أطلق عليها في 2014 "وحدات الحماية الشعبية"، من أجل الحفاظ على النظام العام في مناطق معينة من منطقتي دونيتسك ولوغانسك، ونزع الحق من البرلمان الأوكراني في إلغاء سلطات نواب المجالس المحلية والمسؤولين المنتخبين في انتخابات مبكرة، والمعينين في المنطقتين.
روسيا تمنح جنسيتها للانفصاليين
وبعد نحو سبع سنوات على توقيع "مينسك 2"، لم يتم تنفيذ بنودها، وتواصلت الاشتباكات المتقطعة، وأعلن ممثلو لوغانسك ودونيتسك أن الإقليمين "جمهوريتان انفصاليتان" عن أوكرانيا، لم تعترف بهما روسيا رسمياً لكنها واصلت دعمهما على جميع الصعد، ومنحتهما وضعاً خاصاً يرقى إلى اعتراف منقوص، عبر السماح لشركاتهما بالمشاركة في عطاءات الحكومة الروسية.
كما اعترفت روسيا بالوثائق الصادرة عن الجمهوريتين، وسهّلت منح الجنسية الروسية لسكانهما، ووصل الحاصلون عليها إلى أكثر من 700 ألف شخص حتى بداية العام الحالي على أقل تقدير.
وتجدد موسكو تمسكها بضرورة تنفيذ اتفاقيات مينسك وترى أنها السبيل الوحيد لتسوية الأزمة من دون حرب. وينطلق الموقف الروسي أساساً من أن "مينسك 2" يصبّ في مصلحة الانفصاليين المدعومين منها، ولا ينصّ على إلزامها بأي التزام، بعدما استطاعت تثبيت أنها ليست طرفاً في الصراع في المفاوضات ضمن مجموعة "نورماندي" (تضمّها مع أوكرانيا وفرنسا وألمانيا)، فضلاً عن بروز تقديرات بأن أي حكومة أوكرانية لن تستطيع التقدم في تنفيذهما.
نصت الاتفاقيات على أن الحكومة الأوكرانية لن تستعيد السيطرة الكاملة على دونباس
وفي 27 يناير/ كانون الثاني الماضي وبعد اجتماع لمستشارين بارزين لقادة مجموعة "نورماندي" في باريس، أشار نائب رئيس إدارة الكرملين دميتري كوزاك، إلى أن الحديث "لم يكن سهلاً، لكنه كان ربما الأول من نوعه لاستعراض المشاكل المتعلقة بتنفيذ اتفاقيات مينسك".
وشدد على أن "المهمة الرئيسية هي التوصل إلى فهم مشترك لجميع بنود اتفاقيات مينسك فيما يخص الشروط السياسية للتسوية ووقف إطلاق النار والقضايا الإنسانية".
في المقابل، وقبل أيام من اجتماع ثانٍ يعقد في برلين لمستشاري قادة "نورماندي"، حذر رئيس مجلس الأمن القومي والدفاع في أوكرانيا أليكسي دانيلوف، من أن اتفاقية السلام، التي تم التوقيع عليها في محاولة لإنهاء الحرب في شرق أوكرانيا، قد تؤدي إلى انهيار البلاد إذا تم تنفيذها، وذلك مع اشتعال التوترات على الحدود المشتركة مع روسيا.
وحضّ دانيلوف في تصريحات لوكالة "أسوشييتد برس" الأميركية مطلع الشهر الحالي، المسؤولين الأوكرانيين على التراجع عن اتفاقيات مينسك لتجنب انهيار أسس أوكرانيا.
ومع إشارته إلى أن التوقيع على الاتفاقية تم "تحت فوهة البندقية الروسية"، تحت أنظار الألمان والفرنسيين، ناشد دانيلوف الدول الغربية "ألا تدفع أوكرانيا إلى تنفيذ الشروط الحالية المنصوص عليها في الاتفاقات".
وحذّر من أنهم "إذا أصروا على تنفيذ اتفاقيات مينسك كما هي، فسيكون ذلك في غاية الخطورة على بلدنا"، موضحاً أنه "إذا لم يقبل المجتمع هذه الاتفاقيات، فقد يؤدي ذلك إلى وضع داخلي صعب للغاية وروسيا تعتمد على ذلك". وخلص إلى أنه "كان من الواضح بالفعل لجميع العقلاء أن من المستحيل تنفيذ هذه المعاهدة".
روسيا تضغط لتطبيق اتفاقيات "مينسك"
وتشن روسيا حملة على كييف بسبب عدم تنفيذ الاتفاقيات، وتدعو البلدان الغربية للضغط من أجل تنفيذها. وفي 1 فبراير الحالي، اتهم مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا السلطات الأوكرانية بأنها لم تخط خطوة واحدة نحو تنفيذ اتفاقيات مينسك لتسوية النزاع في منطقة دونباس شرقي أوكرانيا.
وشدد على وجوب "تركيز اهتمام المجتمع الدولي على هذه القضية"، مشيراً إلى أن السلطات الأوكرانية تتحدث عن "استحالة تنفيذ اتفاقات مينسك، وهذا يعني أنها لن تقدم على ذلك من دون ضغوط".
رئيس مجلس الأمن القومي الأوكراني: التوقيع على مينسك تم تحت فوهة البندقية الروسية
وتتهم روسيا الحكومات الأوكرانية المتعاقبة بعدم العمل على تنفيذ الاتفاقيات، والسعي لتخريبها منذ عهد الرئيس السابق بيترو بوروشينكو.
ومن الواضح أن تصريحات المسؤول الأمني الأوكراني تصب في اتجاه تسليط الضوء على استحالة تنفيذ الاتفاقات، والدعوة لمفاوضات جديدة حول الشروط، ومن ضمنها سيطرة أوكرانيا على الحدود الدولية قبل الانتخابات المحلية في الإقليمين الانفصاليين، والنظر في موضوع الوضع الخاص للوغانسك ودونيتسك، تجنباً لخطوات تصعيدية من القوميين الأوكرانيين ضد السلطة الحالية في حال مضت في تنفيذ الاتفاقيات، ومن جهة أخرى الخشية من مطالبة مناطق أخرى في جنوب شرقي أوكرانيا بوضع مشابه لمنطقة دونباس.
ومن غير المستبعد أن دانيلوف نسّق تصريحاته مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي غير القادر على الإعلان صراحة عن رفض اتفاقيات مينسك، على سبيل "بالون اختبار" قد يتلقفه القادة الأوروبيون من أجل عدم التركيز على تنفيذ الاتفاقيات، بل على خطر الغزو الروسي المفترض، أو أن تكون تمهيداً للانسحاب من الاتفاق في حال عدم إعادة التفاوض على بنوده.
ومن المؤكد أن الجانب الروسي سيواصل تأكيد ضرورة تنفيذ الاتفاقيات، وإقناع مزيد من الدول الغربية على أنها تعد السبيل الوحيد للتسوية السلمية للصراع في دونباس، وتجنب حرب تعلن الأطراف الدولية وروسيا أنها لا تريدها.