إيطاليا.. رئيسة الوزراء ميلوني في مواجهة ثمن ترويض السلطة

18 فبراير 2024
تواجه ميلوني معضلة تمثيل "أصوات الشارع" المحتج على السياسيين (Getty)
+ الخط -

بعد نحو 16 شهرا في السلطة، تجد رئيسة حكومة الائتلاف في روما جورجيا ميلوني نفسها في مواجهة تحديات تناقض شعارات حزبها اليميني المتطرف "إخوة إيطاليا"، مع واقع التطبيق السياسي.

وإيطاليا، كغيرها من مدن أوروبا، لا تزال تشهد احتجاجات المزارعين على تردي أوضاعهم، ورفضهم سياسات التحول الأخضر المفروضة من الاتحاد الأوروبي. وقبل وصولها إلى السلطة، راهنت ميلوني، مثل أجنحة الشعبويين واليمين المتطرف في أوروبا، على لعبة الظهور كممثلة لـ"غضب المواطنين واحتجاجهم"، وباعتبار حزبها حزبا احتجاجيا.

أما اليوم فميلوني في السلطة، وتواجه معضلة تمثيل "أصوات الشارع" المحتج على السياسيين. وذلك يصبّ في مصلحة اليميني المتشدد وزعيم "الرابطة" (ليغا) ماتيو سالفيني، إذ برغم أنه جزء من الحكم، فإنه يستغل تحول ميلوني إلى ما يشبه "الوسطية السياسية"، أو إلى خانة "ترويض السلطة" لأفكارها المتطرفة، ليقدّم نفسه بديلا للشارع المحبط منها.

وقد جاءت رئيسة الوزراء الإيطالية على خلفية وعود بوقف الهجرة، لكنها تصطدم بالواقع، وتستعيض عنه باتفاقيات هنا وهناك، مثل اتفاق رواندا وغيرها في أفريقيا، والاتفاق مع ألبانيا في الخريف الماضي، الذي وصفته بـ"التاريخي". بينما تحول خطابها التصادمي مع أوروبا من "ضد النخبة في بروكسل" إلى "تعاون وشراكة"، بفضل علاقة جيدة مع رئيسة المفوضية الأوروبية، الألمانية أورسولا فون ديرلاين. وهو ما جعل السيدة تبدو راضخة لمطالب الاتحاد الأوروبي لتقييد الإنفاق العام، من أجل الإفراج عن مليارات التعافي الاقتصادي المخصصة من صندوق التعافي في بروكسل، وهي أصلا كانت تعتبر حتى خريف 2022 مطالب بروكسل لبلدها "إهانة".

أضف إلى ذلك، أنها تبنت الخط الأوروبي-الأميركي-الأطلسي في سياسات التشدد ضد روسيا، وفي دعم أوكرانيا، على عكس التيار الأوروبي والمحلي. وإلى جانب قائمة طويلة أخرى فيما يمثل ذلك تناقضا مع أفكار وتوجهات شريكها الحكومي في "ليغا" وزعيمه سالفيني.

واليوم تعيد احتجاجات مزارعي إيطاليا التذكير بصرخات ميلوني السابقة ضد الاتحاد الأوروبي، المتهم من معسكرها بأنه يسلب الدول سيادتها، ويفرض نهجا لا يتوافق ومصالح شعوبها. صحيح أنها تصرح بتفهم المحتجين، واضطرت مؤخرا إلى إعادة تفعيل قانون إعفاء المزارعين من ضريبة الدخل الشخصي، والذي اعتبره سالفيني جاء بفضل ضغوط حزبه، إلا أن ذلك لا يهدئ أو ينهي "الحركة الاحتجاجية"، التي كان حزبها "إخوة إيطاليا" و"ليغا" و"النجوم الخمس" يقدمون أنفسهم كمعبّرين عنها، كما تفعل الشعبوية واليمينية المتطرفة الأوروبية.

فمن الشمال إلى الجنوب يتوسع سخط الإيطاليين، ويصل الصوت إلى مقار الحكم الائتلافي في روما، ناشرا أجواء قلق خسارة هؤلاء الساخطين.

سالفيني محاولا اقتناص الفرصة

تنقل وسائل الإعلام الإيطالية عن المحتجين قولهم إن "السلطات تتجاهلنا" و"نريد نتائج ملموسة" و"حان الوقت لكي يتحمل السياسيون مسؤوليتهم ويأخذوننا على محمل الجد". وتلك أقوال تعرفها ميلوني وشريكها سالفيني، فهي لعبتهما المفضلة في طريق طويل لدغدغة مشاعر الإيطاليين المحتجين.

وفي آخر استطلاعات لصحيفة "لاريبوبليكا" أبدى ثمانية من كل عشرة إيطاليين تأييدهم احتجاجات المزارعين. وتشير استطلاعات أجريت يومي 15 و16 فبراير/ شباط الحالي نشرت أمس السبت إلى أن نحو 53 في المائة من الإيطاليين لا يثقون بميلوني، وهو انحدار متواصل على مدار عام بأكثر من 10 في المائة. مع ذلك يواصل الناخبون تفضيل حزبها "إخوة إيطاليا" (فراتيلي ديتاليا) على البقية بنحو 28 في المائة، يليه "النجوم الخمس" بنحو 16 في المائة، بينما حزب سالفيني يتراجع من 33 في المائة قبل بضع سنوات إلى نحو 9 و10 في المائة.

في آخر استطلاعات لصحيفة "لاريبوبليكا" أبدى ثمانية من كل عشرة إيطاليين تأييدهم احتجاجات المزارعين

وجاء قفز اليميني القومي المتشدد سالفيني، وهو بمنصب "نائب رئيسة الحكومة"، على الموجة الاحتجاجية، متربصا بـ"إخوة إيطاليا"، بالعزف على وتر أنه يعارض نفس الحكومة المشارك فيها وسياسات الاتحاد الأوروبي. كيف لا وهو خبير في الشعبوية واقتناص الفرص.

والمسألة عند سالفيني لا تتعلق بالتعويل على ذهاب إيطاليا نحو انتخابات مبكرة. بل إنه، مثل بقية اليمين المتطرف الأوروبي، يراهن على تحقيق نتائج جيدة في انتخابات البرلمان الأوروبي القادمة في 9 يونيو/ حزيران القادم.

ويصرّ سالفيني على وضع حزبه في تنسيق مع حزب "البديل لأجل ألمانيا"، والمعسكر المتشدد في النمسا وهولندا وفرنسا، وهو ما يجعله أمام الممتعضين من سياسات بروكسل، التي يحمّلونها مسؤولية تردي أوضاع الفلاحين الأوروبيين، من بوابة ما تحققه تلك الأحزاب من تقدم في الاستطلاعات، وعلى ذات نسق الصدام والتشكيك بالمشروع الأوروبي منذ نحو عقدين. فهو يصوب سهامه على سياسات أوروبا الخضراء، واتهامات لبروكسل بأنها تضر بالمزارعين من خلال مشاريع "الأغذية المنتجة مخبريا لمصلحة الشركات متعددة الجنسيات"، بل قفز قفزة أخرى نحو اعتبار ذلك في إطار "هيمنة الماسونية على الاتحاد الأوروبي"، خلال لقاء تنسيقي مع الأحزاب الأوروبية المتطرفة في الطريق نحو انتخابات برلمان القارة.

إذا، يستفيد سالفيني من "عقلنة" خطابات ميلوني، وتخليها عن التصادم مع بروكسل، ما يمنحه فرصة لاعتبارها قد فشلت في وعودها عن وقف تدفق الهجرة، وبأنها تتراجع عن إصلاحات المعاشات التقاعدية المبكرة وتستجيب لشروط بروكسل بشأن تقييد الإنفاق العام.

عموما، فالمآخذ التي يروجها حزب "ليغا" عن جورجيا ميلوني تركز على أنها تنتهج ذات سياسات رئيس الحكومة السباق، ماريو دراغي، لأجل تذكير ناخبي التطرف والشعبويين بأنه البديل الأفضل. وبالتأكيد لا يمكن نفي أن ميلوني سعت خلال 16 شهرا إلى خلق انطباع خارجي، وخصوصا أوروبيا-أميركيا، عن أنها "معتدلة" وجديرة بالثقة، خاصة فيما يتعلق بروسيا والصين وأوكرانيا، رغم وجود من يوصف بـ"صديق بوتين"، ماتيو سالفيني، في حكومتها.

 ومع أن "إخوة إيطاليا" لا يزال في مقدمة الأحزاب إلا أنه لا شيء يضمن في السياسة الإيطالية غير المستقرة منذ الحرب العالمية الثانية ألا تصبح جورجيا ميلوني نفسها ضحية خطابها المتشدد السابق، وبسعي واضح من "شريكها" ومنافسها سالفيني لحصد الأصوات، باعتبارها لم تعد تعبّر عن الأصوات الاحتجاجية.

المساهمون