يكاد إقليم دارفور، غربي السودان، أن يدخل عقده الثالث، وهو في حالة قتال وصدام ونزوح وتشرد لا تنتهي. فمنذ بدء الحرب عام 2003، والنزاعات ما زالت تحصد الأرواح وتشرّد الآلاف. وعلى الرغم من توقيع اتفاق سلام بين الحكومة والحركات المسلحة العام الماضي، فإنّ أسباب الصراع تتغيّر دوماً.
ومنذ 3 إبريل/ نيسان الماضي، سقط 144 قتيلاً وأصيب 233 في اقتتال قبلي في مدينة الجنينة غربي دارفور، ونزح نحو 1860 إلى تشاد. وفي فبراير/ شباط الماضي، أعلنت الأمم المتحدة أنّ إجمالي عدد النازحين جراء أعمال العنف في إقليم دارفور خلال يناير/ كانون الثاني الماضي، بلغ حوالى 183 ألفاً.
سقط 144 قتيلاً وأصيب 233 باقتتال قبلي في إبريل الماضي
وعقب إطاحة الرئيس السابق عمر البشير في 11 إبريل 2019، حدث التحوّل الأكبر في قضية دارفور بوضع الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، قضية السلام كإحدى أهم أولوياتها قبل إجراء انتخابات مطلع 2024، أي في نهاية الفترة الانتقالية التي تستمر 53 شهراً، وبات يتقاسم السلطة خلالها كلّ من الجيش وتحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" وحركات مسلحة، بعدما وقعت الأخيرة مع الخرطوم اتفاقاً لإحلال السلام، في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 في جوبا، عاصمة جنوب السودان. وشارك في الاتفاق وقتها، أبرز حركتين، هما "العدل والمساواة" و"حركة تحرير السودان جناح أركو مناوي" إلى جانب حركة "تحرير السودان" بقيادة الهادي إدريس، لكن غاب عنه حركة "جيش تحرير السودان" بقيادة عبد الواحد نور، التي ظلّت ترفض التفاوض مع الخرطوم منذ 18 عاماً.
وكانت الحرب في دارفور قد بدأت عام 2003، عندما أعلنت حركتا "تحرير السودان" و"العدل والمساواة" المسلحتان، تمردهما واتهمتا النظام السوداني بتهميش الإقليم. ومع اشتعال الحرب، طالبت الدول الغربية بنشر قوات حفظ سلام أممية لحماية المدنيين، فيما كانت الخرطوم ترفض ذلك، إلى أن قبلت في 2004 بنشر قوات تابعة للاتحاد الأفريقي. وبدأت تتوالى أخبار الانتهاكات والفظائع في دارفور، حتى بدأت المحكمة الجنائية الدولية عام 2005 تحقيقاً في جرائم الحرب في الإقليم بتفويض من مجلس الأمن، لكنّ الحكومة رفضت الاعتراف بسلطات المحكمة.
وفي 2006، حدث انشقاق في حركة "تحرير السودان" بقيادة القائد الميداني آنذاك أركو مني مناوي، عن رئيس الحركة عبد الواحد محمد نور. وفي العام نفسه، أبرم مناوي (الذي عُيّن قبل أيام حاكماً لإقليم دارفور) اتفاق سلام مع حكومة الخرطوم في العاصمة النيجيرية أبوجا، برعاية أفريقية ودولية ليتولى بعد ذلك منصب كبير مساعدي البشير، فيما رفض عبد الواحد نور، وحركة "العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم الاتفاق. وعلى الرغم من اتفاق حركة مناوي (التي عادت للتمرد عام 2010) وحكومة البشير، زادت وتيرة الاتهامات للقوات الحكومية ومليشياتها بارتكاب جرائم ضد المدنيين، وكذلك اتهام بعثة حفظ السلام الأفريقية آنذاك بالعجز عن حماية المدنيين. بينما ظلّت المحكمة الجنائية الدولية، منذ مايو/ أيار 2007، تطالب السودان بتسليم المطلوبين لها، ولا سيما أحمد هارون، وزير الدولة للشؤون الإنسانية في وقتها، وعلي عبد الرحمن "كوشيب" أحد قادة مليشيا الجنجويد المتهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور، الذي تجري محاكمته حالياً في لاهاي، عقب تسليم نفسه العام الماضي.
وبرز تحوّل في 2008، عندما قبل السودان بنشر بعثة حفظ سلام مشتركة بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة "يوناميد"، بدلاً من البعثة الأفريقية، وهي ثاني أكبر بعثة حفظ سلام أممية، ويتجاوز عدد أفرادها 20 ألف جندي، بميزانية سنوية قدرت بـ1.4 مليار دولار. وفي العام نفسه، نشرت الأمم المتحدة تقريراً قدرت فيه عدد القتلى منذ اندلاع الحرب بنحو 300 ألف، مع نزوح 2.5 مليون شخص من قراهم، لكنّ الحكومة رفضت التقرير، وقالت إنّ عدد القتلى لم يتجاوز 10 آلاف شخص.
أنشأ مجلس الأمن بعثة جديدة للمساعدة في الفترة الانتقالية بالسودان
في هذه الأثناء، كانت المحكمة الجنائية الدولية تواصل تحقيقاتها، وقد حررت في مارس/ آذار 2009، مذكرة اعتقال بحق البشير نفسه بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأضافت لها تهمة الإبادة الجماعية في العام التالي، لكنّ الحكومة رفضت الاعتراف بالمحكمة وقراراتها.
في 23 فبراير 2010، تشكلت حركة جديدة هي "التحرير والعدالة" بزعامة التجاني السيسي. وفي العام نفسه، بدأت محادثات سلام كانت ترعاها الدوحة بين الحكومة وحركة "العدل والمساواة"، والتحقت بالمفاوضات حركة "التحرير والعدالة" التي وقّعت في يوليو 2011، اتفاق سلام مع حكومة الخرطوم في الدوحة، وبناءً عليه شُكّلت سلطة إقليمية لدارفور، آلت رئاستها إلى التجاني السيسي.
عاد البشير في أوائل 2014، ودعا إلى حوار شامل تبناه الاتحاد الأفريقي، واستمرت المفاوضات إلى عام 2016، وتركزت حول إيصال المساعدات الغذائية لمناطق سيطرة الحركات المسلحة ووقف الأعمال العدائية، وتكرر إعلان وقف إطلاق النار.
لكن، في 2017، اندلعت اشتباكات بين عناصر "قوات الدعم السريع" (كانت تتبع لجهاز الأمن حينها) بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس مجلس السيادة، وبين قوات وحرس الحدود شبه الحكومية، شمالي دارفور، بقيادة موسى هلال، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات.
في 2018، عقدت الحكومة السودانية والحركات المسلحة مجدداً لقاءات في العاصمة الألمانية برلين، لكن من دون إحراز أي تقدم، إلى أن سقط نظام البشير، وتحققت نقلة نوعية في ملف السلام، في أكتوبر 2019، عندما انطلقت مفاوضات بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة، استمرت عاماً كاملاً، ومنحت بعد توقيع اتفاق السلام في أكتوبر 2020 في جوبا، الحركات المسلحة مشاركة في السلطات الانتقالية الثلاث: مجلس السيادة، ومجلس الوزراء، والبرلمان.
وكان مجلس الأمن الدولي قد تبنى بالإجماع في يونيو/ حزيران 2020، القرار 2524، وأنشأ بموجبه بعثة جديدة للمساعدة في الفترة الانتقالية بالسودان "يونيتامس"، لينهي بعد ذلك في ديسمبر/ كانون الأول 2020، مهام بعثة "يوناميد"، عقب أكثر من 13 عاماً على تأسيسها في يونيو 2007. ومطلع العام الحالي، أعلنت الحكومة السودانية أنّها ستنشر 12 ألف جندي في ولايات دارفور عقب انسحاب قوات "يوناميد"، بينما بدأت بعثة "يونيتامس" أعمالها في السودان في فبراير الماضي، من دون أن يؤدي ذلك، حتى الآن، إلأى وقف العنف، ولا سيما القبلي، المتواصل في دارفور والذي ما زال يحصد أرواح المئات ويشرّد الآلاف.
(العربي الجديد، الأناضول)