إفتاء سورية: خشية من نيّات طائفية

17 نوفمبر 2021
حسون أكثر المفتين ولاءً وتزلفاً للسلطة (جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -

يثير قرار رئيس النظام السوري بشار الأسد "تعزيز دور المجلس العلمي الفقهي وتوسيع صلاحياته" مخاوف السوريين من الأهداف الخفية الكامنة وراء هذه الخطوة، ولا سيما ذات البعد الطائفي، خصوصاً أن المرسوم التشريعي الجديد أدى إلى إلغاء منصب المفتي العام والمفتين في المحافظات، وليس فقط إطاحة المفتي الحالي أحمد حسون، الذي لطالما عرف بمواقفه التبريرية لجرائم النظام بحق الشعب السوري.

وفي الإطار الطائفي الذي يُقنع كثيرين في سورية حول تفسير القرارات الأخيرة، فإن إلغاء منصب المفتي، عملياً، وإسناد صلاحياته إلى وزارة الأوقاف، ينتزع من الإفتاء حمولته الدينية الروحية، ويجعل من مواضيعه قضايا تنفيذية إدارية خاضعة للسلطة السياسية التي يرأسها وزير. وبعيداً عن التفسير الطائفي المحتمل للقرارات، يبرز عامل رغبة الأسد بالتخلص من أي مصدر للشرعية غيره، بمعنى أن لمنصب مفتي سورية أهمية رمزية ودينية كبيرة في البلاد، بغض النظر عن شاغل المركز، وآخرهم أحمد حسون الذي يجمع السوريون على أنه أحد أكثر المفتين ولاءً وتزلفاً للسلطة ولرئيسها. ووفق هذا التفسير المحتمل، وإن كان مستبعداً، فإن الأسد كأنه يقول، بهذا القرار، إنه مصدر السلطات كلها في سورية، حتى الدينية منها. ويمكن التذكير في هذا السياق بزيادة وتيرة ظهوره في المناسبات الدينية خلال الفترة الماضية، وتحديداً منذ اندلاع الثورة السورية، وتأديته الصلاة علناً في المساجد إلى جانب كبار رجال الدين السنّة.

وعدّل المرسوم، الذي صدر الأول من أمس الاثنين، القانون رقم 31 لعام 2018، الذي نصّ على إنشاء مجلس يسمى "المجلس العلمي الفقهي" يترأسه وزير الأوقاف في حكومة النظام. ووفق المرسوم الجديد الذي حمل رقم 28 وصدر الأول من أمس، يضاف إلى مهام المجلس "تحديد مواعيد بدايات ونهايات الأشهر القمرية والتماس الأهلة وإثباتها وإعلان ما يترتب على ذلك من أحكام فقهية متصلة بالعبادات والشعائر الدينية الإسلامية"، إضافة إلى "إصدار الفتاوى المسندة بالأدلة الفقهية الإسلامية المعتمدة على الفقه الإسلامي بمذاهبه كافة، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها". والمجلس العلمي الفقهي يضمّ رجال دين من الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة، ففيه أعضاء من الأكثرية السنّية، ومن مراجع الشيعة الإماميّة، ومشايخ العقل الدروز، ومشايخ العلويين، والإسماعيليين، ومن البطاركة المسيحيين.

يستكمل المرسوم التغيير الديموغرافي الذي يتّبعه النظام

ولم ينص المرسوم الجديد صراحة على عزل مفتي النظام أحمد حسون من منصبه، ولكن مضامين المرسوم تؤكد إلغاء منصب المفتي العام والمفتين في المحافظات ونقل مهامهم إلى المجلس، إذ ألغى المرسوم الجديد فصلاً من القانون رقم 31 كان ينصَّ على: "تسمية مفتي الجمهورية وتحديد مهامه واختصاصاته بمرسوم بناء على اقتراح الوزير لمدة ثلاث سنوات قابلة للتمديد"، كما ألغى فقرة كانت تنص على: "يتولى الوزير تسمية مفتين في المحافظات عند الحاجة، وتكليف أرباب الشعائر الدينية والقائمين على أماكن العبادة ومحاسبة المقصرين منهم، وفرض العقوبات التأديبية بحق من تثبت مخالفته منهم وفق أحكام هذا القانون والأنظمة الصادرة وفقاً له".

وتأسس "المجلس العلمي الفقهي" في عام 2018، فيما بات يضم وفق التعديل الجديد، إضافة إلى وزير الأوقاف، معاوني الوزير عضوين، ورئيس اتحاد علماء بلاد الشام عضواً، والقاضي الشرعي الأول في دمشق عضواً، وثلاثين عالماً من كبار العلماء في سورية ممثلين عن المذاهب كافة أعضاء (عوضاً عن 25)، وممثلاً عن الأئمة الشباب عضواً، وخمساً من عالمات القرآن الكريم أعضاءً، وممثلاً عن جامعة بلاد الشام للعلوم الشرعية عضواً، وممثلين اثنين عن كليَّات الشريعة في الجامعات الحكومية.

وجاء قرار إلغاء منصب المفتي بعد تفسير حسون آية قرآنية منذ أيام، سارع المجلس العلمي الفقهي التابع لوزارة الأوقاف للرد عليه، داعياً إلى "عدم الانجرار وراء التفسيرات الشخصية الغريبة التي لا تسعفها لغةٌ، ولا يقرُّها منطق أو برهان". وتداول ناشطون سوريون، في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، مقطع فيديو يظهر فيه حسون في مدينة حلب وهو يفسر آيات قرآنية مدعياً أنها تشير إلى سورية، زاعماً خلال تفسيره آية "ثم رددناه أسفل سافلين" في سورة "التين"، أن المقصود بها من يغادر سورية، وذلك في سياق استهدافه الهاربين من جحيم النظام وحربه الشاملة ضد الشعب السوري. وأثار مقطع الفيديو غضب المجلس الفقهي العلمي في وزارة الأوقاف، الذي أصدر بياناً يتهم فيه حسون بشكل غير مباشر بالغلو والتطرف، معتبراً كذلك أن ما قام به حسون عبارة عن "إقحام للدِّين في إطار إقليمي ضيق".

وقال مطيع البطين، وهو المتحدث باسم "المجلس الإسلامي السوري" الذي يضم علماء معارضين للنظام ومقره إسطنبول، إن ما أثاره مرسوم الأسد "لا يتعلق بأحمد حسون وسلوكه والتخريف الذي وقع به"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد": "حسون موغل في دماء السوريين من خلال فتاويه منذ انطلاق الثورة عام 2011، وهو كما يسمّيه السوريون مفتي البراميل". ومضى البطين بالقول إن "المرسوم الجديد يلغي منصب المفتي ويتدخّل في مسألة القضاء الشرعي والأحوال الشخصية"، مضيفاً: "غالبية السوريين على مذهب أهل السنّة والجماعة، والمرسوم يلغي هذه الحقيقة استكمالاً لسياسة التغيير الديموغرافي التي يتّبعها النظام على مدى أكثر من عشر سنوات". وبيّن أن المرسوم "يفتح الباب أمام إدخال عناصر أجنبية إلى المجلس، أي إيرانيين، ومن هنا تأتي الخطورة على سورية ومستقبلها".

وكان منصب الإفتاء حاضراً بقوة في المشهد الديني والسياسي السوري منذ تأسيس الدولة عقب خروج العثمانيين من بلاد الشام. وعيّن في العام 1918 الشيخ محمد عطا الكسم مفتياً بقرار من حكومة الملك فيصل، ثم تتابع على هذا المنصب كبار العلماء الدمشقيين حتى منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2005، حين عيّن بشار الأسد في هذا المنصب أحمد حسون، الذي ينحدر من قرية صغيرة في ريف حلب. وخدم حسون نحو 16 عاماً النظام لدرجة كانت تثير سخرية السوريين وسخطهم عليه، بل ذهب إلى حد التفسير غير الصحيح للقرآن من أجل تحقيق أهداف النظام في كسر إرادة السوريين وتثبيت بشار الأسد في السلطة.

بات المجال مفتوحاً لتغيير قوانين متعلقة بالأحوال الشخصية

ووفق أرقام غير رسمية، يشكل السنّة (من بينهم الأكراد) النسبة الأكبر من السكان بنحو 80 في المائة، بينما تتوزع النسبة الباقية على بقية الطوائف الأخرى من علويين ودروز وإسماعيليين، وشيعة اثني عشريين ومسيحيين. ومارس النظام بتنسيق مع الجانب الإيراني، على مدى عشر سنوات، سياسة ممنهجة لتهجير أكبر عدد ممكن من المعارضين السوريين (وغالبيتهم من السنة بطبيعة الحال)، ويُقدّر عدد المهجرين السوريين بنحو 10 ملايين موزعين على عدة بلدان. وتحدث الأسد صراحة عام 2017 عن أن الحرب التي شنّها على السوريين أكسبته ما أسماه بـ"المجتمع المتجانس"، أي المجتمع الخالي من المعارضين نظامه الذي تأسس على يد حافظ الأسد منذ عام 1970.

وحذّر مختصون وعلماء سوريون معارضون من التبعات الخطيرة للقرار الجديد لبشار الأسد على هوية الدولة السورية الدينية، وعدّه الباحث الإسلامي محمد خير موسى "أخطر مرسومٍ منذ بداية تولّيه السلطة حتى اليوم"، مشيراً في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن إلغاء منصب الإفتاء "سابقة لم تحدث منذ عام 1918"، لافتاً إلى أن الأمر "أكبر من مسألة عزل مفتٍ، وله دلالات خطيرة". وتابع بالقول: "المفتي يمثّل المرجعية الدينية لأي دولة، وهذا يدل على أن إلغاء منصب الإفتاء في سورية يعني إلغاء مرجعية المذهب السنّي في سورية، وهو مذهب الأكثرية، والمفتي يعبّر عن المذهب الرسمي في الدولة". وبيّن أن المرسوم الجديد "يحوّل الأكثرية السنّية إلى فرقة من الفرق في سورية"، مضيفاً: "إدخال الطوائف المختلفة له دلالة أن الأكثرية السنّية أصبحت بمستوى تمثيلي واحد مع طوائف الأقليات في سورية". وأشار إلى أن الدلالة الثانية "دلالة التغوّل الإيراني على المشهد الديني في سورية"، مضيفاً: "المرسوم يفتح الباب واسعاً أمام تمدد مذهب الإمامية الشيعية في سورية، خصوصاً لجهة القوننة والمرجعية الإفتائية في المجتمع". ولفت إلى أن النظام "منح الجنسية لعدد من رجال الدين الشيعة العراقيين، وباتوا اليوم مرجعيات في سورية".

وحول تبعات المرسوم على هوية سورية، أوضح موسى أن المرسوم يحمل استراتيجية ممنهجة لـ"محو الهوية السورية بعد التغيير الديموغرافي"، لافتاً إلى أن المجلس "يعطي المذهب الشيعي مرجعية في الإفتاء، وهذا في حد ذاته مشكلة كبرى، إذ يتيح التغلغل في القوانين والتشريعات وفي المجتمع". وأشار إلى أن المرسوم أدخل القاضي الشرعي إلى المجلس الفقهي، "ما يعني وقوعه تحت سطوة السلطة التنفيذية، معنى ذلك أن المجال بات مفتوحاً لتغيير كل القوانين المعمول بها المتعلقة بالأسرة والأحوال الشخصية، والتي ظلت عصية على التغيير على مدى عقود، وهو ما يعني استكمال محو هوية سورية الدينية".

المساهمون