صدّق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أول من أمس الثلاثاء، على تعديل تشريعي أقرّه مجلس النواب منذ بضعة أشهر على قانون إنشاء "صندوق تحيا مصر" بإعفاء جميع عوائده ومداخيله والتسهيلات الائتمانية الممنوحة له، من جميع الضرائب والرسوم أياً كان نوعها، وجميع رسوم الشهر العقاري والتوثيق، والرسوم الجمركية. وشمل التصديق النصّ على عدم سريان أحكام قوانين ضرائب الدخل والدمغة، ورسم تنمية موارد الدولة، والضرائب والرسوم الجمركية، والضريبة على القيمة المضافة وأي نوع آخر من الضرائب والرسوم المفروضة حالياً، أو التي تفرض مستقبلاً، بقانون أو بقرار من الحكومة أو من أي سلطة عامة أخرى، عدا ما يقرره قانون الضريبة على الدخل من ضريبة على عوائد أذون الخزانة والسندات، أو الأرباح الرأسمالية الناتجة عن التعامل في هذه الأذون والسندات.
ويعبّر التعديل الجديد عن استمرار توسيع سلطات هذا الصندوق التابع للرئاسة والجيش والبعيد تماماً عن الرقابة، إلى جانب تحقيق أهداف أخرى من التعديل، لا تبدو كما وصفتها الحكومة في مذكرتها الإيضاحية للقانون عند تقديمه إلى البرلمان. وتدّعي الحكومة اكتشاف مشاكل بيروقراطية ومالية تعرقل نشاط الصندوق في المشاريع التنموية، خصوصاً مع النص في المشروع الجديد على إعفائه من رسوم المناطق الحرة لكل ما يستورده من معدات وأجهزة ومستلزمات وأي أصناف أخرى، وكل ما يرد إليه من الهدايا والهبات والتبرعات والمنح التي ترد إليه من الخارج.
يعبّر التعديل الجديد عن استمرار توسيع سلطات هذا الصندوق التابع للرئاسة والجيش
وتعتبر الحكومة أن النصّ العام والمتسع في القانون القائم بإعفاء هذا الصندوق من "جميع الضرائب والرسوم عوائد الصندوق والتسهيلات الائتمانية الممنوحة له" ليس كافياً وفقاً لها، لتمكين الصندوق من مباشرة الأنشطة الاجتماعية والتنموية المنصوص على إنشائه من أجلها.
ويأتي التعديل في السياق الحالي لمشاريع النظام وتوجّهاته منذ تفشي فيروس كورونا مطلع العام الماضي، لتكريس وضعه الاستثنائي كصندوق "شبه سيادي"، مُعفى من جميع أدوات الرقابة والمشاركة في تمويل الدولة، ويمكنه استثمار مداخيله في مشاريع يملكها بصفة مستقلة عن الحكومة. ويزاحم الصندوق الشركات الحكومية والقطاع الخاص في بعض الأنشطة، بحجة أن إسهاماته "ذات هدف تنموي"، خصوصاً أن قانونه يسمح له بإقامة مشاريع تنموية تقوم عليها شركات جديدة مملوكة ملكية تامة للصندوق، أو يساهم في رأس مالها.
وحول تفاصيل التعديل وأهدافه، تكشف مصادر حكومية لـ"العربي الجديد" أن التعديل الجديد يمنح بالأساس للصندوق الأولوية لقيادة العمل الأهلي في مصر، من منظور النظام، وليس بالمعنى التقليدي للعمل الأهلي. ويقضي ذلك بموازاة مسار عمل الصندوق لممارسات الحكومة، ولا يكون نابعاً من المجتمع كشريك للدولة في التنمية. ووفقاً للتعديل لن تكون أي منظمة أهلية، حتى تلك التابعة للمخابرات العامة ومختلف الأجهزة الحكومية، قادرة على منافسة "صندوق تحيا مصر" في أي مجال.
ويتعلّق التعديل أيضاً بثلاث مسائل مهمة يرغب النظام في طيّها نهائياً وعدم إثارة الجدل بشأنها مستقبلاً. المسألة الأولى مرتبطة بغياب الرقابة والتحصيل الضريبي عن التبرّعات الضخمة التي تنهال على الصندوق من رجال الأعمال. ويرى البعض أنها باتت بمثابة "قرابين" لضمان السلامة والاستمرار في العمل بمختلف المشاريع مع الأجهزة، وبصفة خاصة الجيش.
أما المسألة الثانية فهي مواكبة التوسّع الكبير في الأملاك الخاصة بالصندوق بمختلف أنواعها؛ عقارية ومنقولة، خصوصاً مع وجود اتجاه لتخصيص مساحات من الأرض في قرى مختلفة للشركات التابعة للشركة القابضة الجديدة التي أنشأها الصندوق العام الماضي، لاستغلالها في إقامة مشاريع صغيرة ومتوسطة ستؤجر للمواطنين وتبقى ملكيتها قائمة في النهاية للصندوق. ويسجل الصندوق ملكيته للمنشآت والأجهزة والأدوات المستخدمة في عدد كبير من المشاريع التي بدأ تنفيذها بالفعل، مثل تنظيم قوافل لتوزيع مواد غذائية وملابس وتجهيزات تكفي مليون مواطن، ومساعدة ودعم ألفي فتاة للزواج، وتنظيم قوافل طبية، وتوزيع أجهزة غسيل كلوي، وكراسي متحركة للمعاقين، وحضانات للأطفال.
وعلى الرغم من الطابع الإنساني لتلك المبادرات، إلا أن تعمّد تقديمها كبديل لدور الدولة، ومكمّل لدور الجيش في التنمية، مع الابتعاد التام عن الرقابة، يطرح تساؤلات عديدة حول كفاءتها وسلامة تسييرها. وتتمحور التساؤلات حول سهولة تدفق وإنفاق الأموال إلى الصندوق ومنه، ومؤتمراً بقرارات السيسي، عبر إدارة جرى تحديثها مرات عدة لتصبح مكونة من الشخصيات الموثوقة بعد استبعاد الشخصيات الاقتصادية المعروفة، التي كان الصندوق معتمداً عليها في بدايته.
وتفيد المصادر بأن ما تم إنفاقه خلال السنوات الماضية من "صندوق تحيا مصر لا يمثل نسبة كبيرة من حجم ما تدفق عليه من تبرعات، تحديداً في الفترة الأولى من إنشائه بين عامي 2014 و2016". وتشير إلى أن حصيلة الصندوق تخطت حالياً 43 مليار جنيه (2.8 مليار دولار)، سواء من التبرعات أو حصيلة الاستثمارات، علماً بأن السيسي كان يتحدث عن أمله في أن يجمع 100 مليار جنيه (6.3 مليارات دولار) على الأقل في السنوات الثلاث الأولى.
أما المسألة الثالثة فمتعلّقة بتأمين جميع مصاريف الصندوق بالتبرعات والإنفاق بشأن لقاحات كورونا وإعفائها من الرسوم والضرائب الجمركية، والتي أصبح الصندوق هو المتحكم الأول فيها، متقدماً على وزارة الصحة، ومستأثراً بالجوانب المالية. ويستند في ذلك إلى إعلان الحكومة في مايو/ أيار الماضي إسناد الملف كاملاً إلى الصندوق، بعيداً عن السلطة التنفيذية ممثلة في الوزارة، بعد نحو ستة أشهر من اشتراك الجهتين في جمع التبرعات لهذا الغرض، وذلك على خلفية رفض بعض رجال الأعمال التبرع للصندوق مباشرة، واشتراط التبرّع للوزارة وتوقيع اتفاقيات معها تضمن توزيع نسبة من كميات اللقاح التي تساهم تبرعاتهم في شرائها، على العاملين في مؤسساتهم وشركاتهم. وهو ما حدث مع رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى، وعدد آخر من رجال الأعمال، الذين كانوا يعتبرون أن التعامل مع وزارة الصحة سيكون أكثر مؤسسية، وسيمكنهم أيضاً من تحقيق استفادة مباشرة فور تلقي اللقاحات المطلوبة.
نُقلت التبرعات التي تلقتها وزارة الصحة إلى "صندوق تحيا مصر"
وبموجب هذا التوجيه تم نقل جميع التبرعات التي سبق أن تلقتها وزارة الصحة من رجال الأعمال إلى "صندوق تحيا مصر"، الذي لا يراقبه إلا رئيس الجمهورية مباشرة، المسؤول عن تمويل العمليات التي تقوم بها هيئة الشراء الموحد التابعة عملياً للقوات المسلحة. بالتالي فإن التعامل مع هذا الملف سيكون بحسب المصادر الحكومية "عسكرياً من الألف إلى الياء"، وبصورة "ربما لا تحقق الفوائد المرجوّة لرجال الأعمال"، بما يصعّب التكهن بمدى استعدادهم لإنفاق المزيد من الأموال في هذا الصدد.
وأبرز شخصية في إدارة الصندوق حالياً هو أمين اللجنة التنفيذية للصندوق، اللواء محمد أمين نصر. ويرأس اللجنة رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، باعتباره الوزير المختص بحقيبة الاستثمار. ونصر هو العنصر الوحيد الباقي في إدارة شؤون الصندوق منذ إنشائه (في يونيو/حزيران 2014) حتى الآن، مع توسيع صلاحياته بصورة كبيرة. ويشغل نصر أيضاً منصب المستشار المالي للسيسي منذ يونيو/ حزيران 2019، وقبلها كان مساعد وزير الدفاع ورئيس الهيئة المالية للقوات المسلحة. ويعتمد نصر على عدد من العسكريين الحاليين والسابقين في عمله اليومي، مبرزاً الإدارة المباشرة للرئاسة والجيش على الصندوق منذ تأسيسه.
وأكسب النظام الصندوق واجهة "شابة" تتجسّد في تعيين عدد من ضباط الجيش الشبان خريجي البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة، التابعين لمدير المخابرات العامة اللواء عباس كامل، في مناصب عدة منذ فبراير/ شباط 2020. وتمّت عسكرة منصب المدير التنفيذي للصندوق، الذي كان يتولّاه عند التأسيس المصرفي محمد حمدان العشماوي، الذي أُبعد في وقت لاحق ليحل محله إبراهيم كرم، ثم أُسند المنصب حالياً إلى عنصرٍ عسكري، وهو المدير المالي والإداري للصندوق العميد تامر عبد الفتاح سلام، المختص بالترويج للمشاريع التي يدخل فيها الصندوق وأعماله المختلفة في وسائل الإعلام، وعلى رأسها مشروع إنشاء الشركة القابضة للصندوق.