إضراب قضاة تونس: المواجهة مفتوحة مع قيس سعيّد

13 يونيو 2022
خلال وقفة في تونس ضد قرارات سعيّد بحق القضاء في فبراير الماضي (ياسين قائدي/الأناضول)
+ الخط -

تبدو المواجهة بين القضاة في تونس والرئيس قيس سعيّد، طويلة ومفتوحة على أكثر من سيناريو، في ظل إصرار القضاة على تحقيق مطالبهم المتعلقة بتراجع رئيس الجمهورية عن المرسوم 35 (الصادر بتاريخ 1 يونيو/حزيران 2022 والذي يسمح لرئيس الجمهورية بإعفاء قضاة) والعدول عن قائمة الإعفاءات الأخيرة التي شملت 57 قاضياً، وسط تلويح بالإضراب المفتوح بعد تمديد الإضراب الأخير لأسبوع ثانٍ بدءاً من اليوم الإثنين، رداً على تعنّت سعيّد ورفض التجاوب مع مطالب القضاة.

وكان القضاة قد أعلنوا يوم الإثنين الماضي في 6 يونيو الحالي الإضراب للمرة الأولى، رداً على ممارسات سعيّد، والتي وصلت إلى ذروتها ضد الجسم القضائي مع إصداره المرسوم 35 ثم قائمة الإعفاءات التي ضمت 57 قاضياً.

وجاء ذلك بعد أن اتخذ سعيّد خلال الفترة الماضية سلسلة من الخطوات لخنق الجسم القضائي كان أبرزها في 12 فبراير/شباط الماضي، عندما اعتمد المرسوم 11 لسنة 2022، الذي حل بموجبه المجلس الأعلى للقضاء، وهو هيئة مكونة من قضاة وخبراء قانونيين وماليين وخبراء ضرائب ومحاسبين ينتخبهم في الغالب أقرانهم.

وقد تأسّس هذا المجلس بعد ثورة 2011 في تونس، للإشراف على القضاء وحمايته من تدخل السلطة التنفيذية. واستبدل سعيّد المجلس بهيئة مؤقتة، ومنح نفسه صلاحيات بموجب المرسوم نفسه للتدخل في التعيينات والمسارات الوظيفية وإقالة القضاة والوكلاء العامين. وفي حين أن المرسوم عدد 11 سمح للرئيس بالفعل بطلب إعفاء القضاة ولكن لأسباب بدت غامضة، إلا أنه لم يسمح له بفعل ذلك بإجراءات موجزة، كما حدث مع القضاة الـ57.

يتمسك سعيّد بالمرسوم عدد 35، الذي يمنح الرئيس في تونس سلطة إعفاء القضاة والوكلاء العامين على هواه

أسبوع ثانٍ من إضراب القضاة في تونس

وفي ظل تجاهل سعيّد لمطالب القضاة، واتخاذه إجراءات انتقامية بحقهم، بما في ذلك الإيعاز بخصم أيام الإضراب من رواتبهم، قررت تنسيقية الهياكل القضائية، أول من أمس السبت، تمديد الإضراب لأسبوع ثان قابل للتجديد ابتداء من اليوم الإثنين، ومواصلة تعليق العمل بكافة المحاكم العدلية والإدارية والمالية والمؤسسات القضائية.

واعتبرت التنسيقية في بيان، أن الإعفاء المباشر من رئيس الجمهورية للقضاة، من دون كفالة الحد الأدنى من حق الدفاع ومبدأ المواجهة، مع حرمان القضاة المعفيين من حق الطعن "يشكّل استباحة للأعراض وللأرزاق وإلغاءً لكافة مقومات استقلال القضاء والقضاة، وتقويضاً لضمان الحقوق والحريات".

كما رأت في هذه الممارسات "ترويعاً لكامل الجسم القضائي"، مشيرةً إلى أن "عدم تفاعل رئاسة الجمهورية ووزارة العدل مع تحركات القضاة ومع الأزمة المستفحلة، وعدم التراجع عن قرارات الإعفاء، وراء التمديد في الإضراب".

ويتمسك سعيّد بالمرسوم عدد 35، الذي يمنح الرئيس في تونس سلطة إعفاء القضاة والوكلاء العامين على هواه، استناداً إلى تقارير من "جهات مخوّلة" غير محددة، تفيد بأنهم يشكلون "تهديداً للأمن العام" أو "المصالح العليا للبلاد"، أو يقومون بأفعال "تمس بسمعة القضاء أو استقلاليته أو حسن سيره". بالإضافة إلى ذلك، فقد جعل رئيس الجمهورية قراراته بإعفاء القضاة محصنةً من أي شكل من أشكال الطعن الفوري.

تقارير عربية
التحديثات الحية

كما ينص المرسوم ذاته على بدء الملاحقة الجنائية تلقائياً ضد القضاة المعفيين بموجب أحكامه. فيما لا يجوز للقضاة الطعن في إعفائهم، إلا بعد أن تصدر المحاكم حكماً قاطعاً في قضاياهم الجنائية.

ويؤدي تحريك الدعاوى الجنائية تلقائياً ضد القضاة على هذه الأسس، إلى خلط الأمور الإدارية والجنائية. وبذلك، يخرج المرسوم تعسفياً عن الإجراءات الجزائية التونسية، وينتهك مبدأ المساواة أمام القانون وفي الحصول على حمايته.

كذلك، لا يمتثل المرسوم لمبدأ الشرعية، وهو مبدأ عام أساسي للقانون والقانون الدولي لحقوق الإنسان. ويرجع ذلك إلى أن الأسس المُرتَكَز عليها لإخضاع قاضٍ للملاحقة الجنائية يتم تحديدها بعبارات عامة غامضة، مما يجعل من المستحيل على القضاة تمييز السلوك الذي قد يُصنّف كجريمة جنائية، ويسمح للسلطة التنفيذية باتخاذ إجراءات تعسفية ضدهم.

المسعودي: مدة الإضراب مرتبطة بالتراجع عن الإعفاءات وقرارات رئيس الجمهورية

إصرار القضاة التونسيين على مطالبهم

وفي السياق، قال رئيس جمعية القضاة الشبان، مراد المسعودي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "مدة الإضراب مرتبطة بالتراجع عن الإعفاءات وقرارات رئيس الجمهورية"، موضحاً أن "القضاة كانوا قد قرروا منذ البداية المضي بإضراب مفتوح، لكن تم الذهاب لاحقاً إلى خيار الأسبوع القابل للتجديد".

وأكد أنه "بعد الأسبوع الأول، اختار رئيس الجمهورية التصعيد وقرر اقتطاع الأجور وهدد باتخاذ إجراءات جديدة، ولكن القضاة لم يخضعوا، ولن يخافوا، وماضون في دفاعهم عن القضاء، بل ومصرون على مطالبهم".

وأضاف المسعودي أن "سعيّد هدد باستعمال آلية الإعفاء، وهو قرار متهور، لأنه في العديد من المهن يمكن تعويض الأشخاص بسرعة، أما في القضاء، فلا يمكن تعويض القضاة لأن هناك شروطاً وتكويناً معيناً في العمل، ولا يمكن تعويض قاض بمحام كما يروّج لذلك البعض مثلاً، فهذه التهديدات غير معقولة أصلاً".

وتابع المتحدث نفسه أن "إضراب القضاة ناجح في أغلب المحاكم والدوائر، باستثناء بعض الحالات المعزولة، لأن هناك في أي قطاع من يتعاطى السياسة ويحاول البروز".

وأكد أنه "حتى بعد قرار تمديد الإضراب، فإن ردود فعل القضاة كانت إيجابية، وهم متمسكون بالكرامة قبل الخبز، لأنهم يعتبرون أن ما فعله سعيّد اعتداءً على السلطة القضائية وعلى القرار القضائي، ولا يمكن إعفاء قاضٍ بجرة قلم".

ولفت إلى أن "أغلب القضاة المعفيين، لا تتعلق بهم قضايا جزائية أو تأديبية، وتم الزج بالعديد منهم في القائمة وتشويههم. ولم يكتف الرئيس بذلك، بل اعتمد خطاباً تحريضياً ضدهم، واتهمهم بالفساد في اتهامات لا أساس لها من الصحة".

وأكد أن "الأسبوع الأول من الإضراب شهد التزاماً من القضاة وكانوا كلمة واحدة، وخلال الأسبوع الثاني سيكون الالتزام أكبر لأن هناك رغبة من رئيس الجمهورية في تدمير القطاع، وبالتالي مهما علا التهديد والوعيد، فالمعركة ليست شخصية، بل هي من أجل قضاء مستقل وليس قضاء الرئيس".

سيتخذ القضاة قرارات تصعيدية في نهاية الأسبوع الحالي

وكشف المسعودي أنه "في نهاية الأسبوع الحالي، ستعقد جلسة عامة ستجمع كافة أعضاء تنسيقية الهياكل القضائية والمجلس الوطني وجميع القضاة من مختلف الهياكل، والتي تضم نحو 6 آلاف قاض، وسيتم اتخاذ قرارات تصعيدية".

وأشار إلى أن "هناك خيارات عدة ممكنة ولا توجد أي مفاوضات بشأن المطالب؛ فلا عودة للعمل إلا بالتراجع عن كل القرارات والإعفاءات الرئاسية، وليس عن البعض منها، فإما الكل أو لا شيء".

واعتبر أن "الإعفاءات مبنية على تقارير أمنية وكيدية نظراً لرفض القضاة تطبيق التعليمات، والزج بشخصيات سياسية في السجون، ورفضهم لملف وهمي متعلق بالجهاز السري (لحركة النهضة) الذي لا يتضمن أي وثيقة، بل هو ملف فارغ".

عروض وساطة للقضاة التونسيين

من جهته، قال القاضي محمد عفيف الجعيدي، أحد أبرز القضاة معارضةً للانقلاب، في منشور على "فيسبوك" أخيراً، إن "مقربين من دوائر القرار يحاولون شق صفوف القضاة بتقديم عروض وساطة لها عنوانان؛ الأول هو تنازل من السلطة عن بعض الأسماء التي شملتها الإعفاءات، والثاني تعيينات بمباركة من القضاة (لتعيينات يصدرها سعيّد) في مواقع القرار القضائي (على أن يكونوا من) المنسجمين القادرين على إصدار قرارات قضائية على المقاس متى طلب منهم ذلك".

ولفت إلى أن "هذه الصفقة يبشّر بها هؤلاء ويقولون إن أهم مزاياها أن لا رابح ولا خاسر فيها".

الجعيدي: مقربون من دوائر القرار يحاولون شق صفوف القضاة

وفي تصريح لـ"العربي الجديد"، أوضح الجعيدي أنّ "الإضراب وسيلة احتجاجية أمام غياب الحوار، وعدم وجود أي تفاعل مع مطالب القضاة أو التراجع عن الإعفاءات، أو حتى إيضاح ما حصل، إذ لم يصدر أي موقف رسمي لتبيان بعض القرارات. ففي وضعيات مماثلة يتم الرد والدفاع عن القرارات المتخذة لأن المنطق السليم يفرض ذلك. وبالتالي الوضع غريب جداً والصراع هو داخل الدولة وهي مسألة غير طبيعية".

وأشار الجعيدي إلى أن "الحالات الطبيعية تقتضي مساراً تفاوضياً وإقناعاً ونقاشات، على أن يقدّم كل طرف حجته، ولكن كل هذا لم يحصل، بل ما حصل هو محاولة فرض الأمر الواقع بالقوة، ولذلك قرر القضاة المضي قدماً في إضرابهم، مؤكدين أنهم لن يتنازلوا عن حقهم في المحاكمة العادلة وفي قضاء مستقل".

وبيّن المتحدث نفسه أن "أهم المواقع القضائية تم تفريغها، وأعفي القضاة فيها على خلفية مواقفهم واتخاذهم قرارات لا تعجب الرئيس، وهذا مؤشر خطير على وضع الحريات".

مع العلم أن قائمة القضاة المستهدفين شملت قضاة تحقيق وقضاة من جهاز النيابة العمومية، ورؤساء أُول لمحاكم استئناف ووكلاء عامين لديها، فضلاً عن مساعدين أُول ووكلاء جمهورية وعدد من قضاة التحقيق وعميدهم (محمد كمون)، والرئيسة الأولى لمحكمة الاستئناف في تونس رفيعة نوار، والمتفقد العام بوزارة العدل رياض الصيد (وهو المشرف أصلاً على الأبحاث التي تجرى بشأن أي تتبع تأديبي لأي قاض).

وقال الجعيدي إنّ "التخويف والترهيب لن يؤسسا لقضاء عادل"، لافتاً إلى أنّه "في يوم الإعلان عن إعفاء 57 قاضياً، تم تطويق المحاكم بالأمن، والتثبّت من هويات القضاة، وهذا لم يسبق أن حصل في أي حقبة من تاريخ تونس".

وأشار إلى أنّ "الإعفاء وتجويع القضاة وتشويههم بالفساد، يخلق مزاجاً عاماً بأنّ الجميع فاسدون، وكان لزاماً تمديد الإضراب، فنحن نعيش اليوم في ظل نظام يروّج للأكاذيب؛ يعزل كما يريد ويشيطن الآخر، لكي يصبح القضاء أداة من أدوات السلطة".

ولفت الجعيدي إلى أن "هناك بعض الأحاديث في الكواليس، تشير إلى أنه يمكن بذل وساطات، وأغلب من يقترح ذلك هم من الموالين والمقربين من سعيّد، وذلك بخصوص إمكانية مراجعة القائمة (الإعفاءات)، وإعادة بعض القضاة بشرط قبولهم بالتنازل عن حقهم في التقاضي، وكل ذلك مقابل التطبيع الكامل مع فكرة أن يتحكّم الرئيس بالمشهد القضائي، وهو ما يوفر خروجاً آمناً من المأزق برأيهم، وهذا طبعاً لا يرضي أي قاضٍ وغير مقبول بتاتاً".

المساهمون