حتى عندما تلكأ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في تهنئة الرئيس الأميركي جو بايدن بفوزه في انتخابات 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي الرئاسية، وذلك لـ12 ساعة بعد ظهور النتائج الأولية في 8 نوفمبر، فقد حرص نتنياهو في تغريدته على موقع "تويتر"، التي هنّأ بها بايدن في ذلك اليوم، على التأكيد: "جو، لقد جمعتنا علاقات طويلة الأمد ودافئة على مدار 40 عاماً تقريباً. أعرفك صديقاً كبيراً لإسرائيل".
ومع دخول بايدن البيت البيض رسمياً، أمس الأربعاء، فلا يبدو أن تغييراً جوهرياً في السياسة الأميركية سيحصل تجاه دولة الاحتلال، ولا في طرق التعامل معها، أو إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل إدارة دونالد ترامب، سواء في سياق الإبقاء على مقرّ السفارة الأميركية في القدس المحتلة، أو التراجع عن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان المحتل. لكن قد نلمس تغييراً في اللهجة والمفردات واتّباع لهجة دبلوماسية "محايدة" في أحسن الحالات، لا تخرج عن إبداء القلق، حيناً، والتمني بعدم اتخاذ خطوات أحادية حيناً آخر، أو الدعوة لترطيب الأجواء واتخاذ خطوات لبناء الثقة وإبداء نية حسنة "لإحياء العملية السلمية".
لن تخرج المفردات الجديدة عن حدود إبداء القلق، والتمني بعدم اتخاذ خطوات أحادية
وبحسب إشارات نتنياهو إلى عمق التزام بايدن بأمن إسرائيل، وتصريحات الرئيس الأميركي الجديد المشهورة عنه، بقوله إنه لا ينبغي أن يكون المرء يهودياً حتى يكون صهيونياً، يمكن الاستدلال على أن الإدارة الأميركية الديمقراطية لن تسعى، على الأقل خلال الأشهر الأولى، وربما حتى عامها الأول، للصدام مع إسرائيل في أيّ من الملفات التي قد تكون خلافية، ما لم تهدّد المصالح الأميركية الأوسع في المنطقة.
وإذا كان نتنياهو قد أعرب في تهنئته المتلكئة لبايدن عن توقعه للعمل مع الرئيس الجديد بما يخدم تعزيز العلاقات بين دولة الاحتلال والولايات المتحدة، بما في ذلك في الملف الإيراني، فإن تصريحات وزير الخارجية الأميركي الذي اختاره بايدن، أنتوني بلينكن، بأن الولايات المتحدة ستتشاور مع إسرائيل بشأن كل تغيير في الاتفاق النووي مع إيران، يُشكل طمأنة لإسرائيل التي وجّهت رسائل واضحة لإدارة بايدن بشأن شروطها، أو رؤيتها للعودة إلى الاتفاق النووي. وفي مقدمة هذه الشروط أن يشمل الاتفاق الجديد القيود على مشروع إيران الصاروخي، وليس فقط النووي. كما أكد بلينكن أنّ بايدن لن يعود عن قرار إدارة ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لكنه رأى أنّ التسوية الوحيدة القابلة للاستمرار في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي هي "حلّ الدولتين"، وذلك خلال جلسة استماع عقدها مجلس الشيوخ للمصادقة على تعيينه أول من أمس، الثلاثاء.
ولعل أبرز ما يؤشر إلى عدم وجود قلق في إسرائيل من نوايا إدارة بايدن، ما أفصح عنه أحد أشدّ رموز اليمين الاستيطاني في إسرائيل، داني دايان، الذي شغل حتى قبل أشهر قليلة منصب القنصل الإسرائيلي في نيويورك، ونسج علاقات أيضاً مع أقطاب في الحزب الديمقراطي الأميركي. فقد أعلن دايان، في مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية، أمس، أن الثنائي بايدن وكامالا هاريس (نائبة الرئيس الأميركي)، هما أفضل ما يمكن لإسرائيل أن تتوقعه وتحصل عليه من الحزب الديمقراطي الأميركي، فهما يشبهان بيل كلينتون وإدارته، أكثر من باراك أوباما وإدارته. فوزير الخارجية ورئيس طاقم البيت الأبيض (رون كلين) ومستشار الأمن القومي (جيك سوليفان)، هم أناس جيّدون.
وبحسب دايان، الذي انسحب أخيراً من حزب "الليكود" وانضم إلى حزب "تكفا حداشاه" بقيادة جدعون ساعر، المنافس الأوفر حظاً لنتنياهو، والأكثر تطرفاً في مواقفه السياسية، فإنه يتوقع أن يحتل الملف الفلسطيني "أدنى مرتبات سلّم أولويات إدارة بايدن، بترتيب الرابع من أصل ثمانية ملفات، وفي مقدمتها الشرخ الإثني العرقي الداخلي في الولايات المتحدة، والأزمة السياسية الأميركية، والأوضاع الاقتصادية والعلاقات مع الصين وكندا وأميركا اللاتينية". ورأى دايان، مثلاً، أن إدارة بايدن ستخوض مفاوضات متشددة مع إيران بشأن العودة إلى الاتفاق النووي، وهو لا يستبعد أن تقوم إيران بالذات بتفجير المفاوضات وإفشالها.
وتبدو تصريحات دايان هذه في صلب القناعات في إسرائيل في كون الملف الفلسطيني وموضوع الضمّ (ضمّ أجزاء من الضفة الغربية) لن يحتلا مرتبة متقدمة في سياسات بايدن، ناهيك عن أن إسرائيل نفسها في أوج معركة انتخابية قد تتمخض عن تغيير في المشهد السياسي الداخلي، وربما خسارة نتنياهو الانتخابات وعدم قدرته على تشكيل حكومة مقبلة. ويعني هذا بالنظر إلى أن صورة المشهد الإسرائيلي لن تتضح قبل إبريل/ نيسان أو مايو/ أيار المقبل، علماً أن انتخابات الكنيست ستجري في 28 مارس/ آذار المقبل، أن إدارة بايدن نفسها لن تكون مضطرة خلال الأشهر المقبلة على الأقل، لبلورة وتحديد خطة أو سياسة واضحة في الملف الفلسطيني، خصوصاً أن الأراضي الفلسطينية ستشهد هي الأخرى سلسلة انتخابات بدءاً من شهر مايو، لانتخاب المجلس التشريعي، وانتخاب الرئيس الفلسطيني ومجلس وطني جديد في 31 أغسطس/ آب المقبل.
يسود اقتناع في إسرائيل بأن الملف الفلسطيني وموضوع الضمّ لن يحتلا مرتبة متقدمة في سياسات بايدن
هكذا، ينبغي عدم تجاهل الرسائل الإسرائيلية المختلفة لإدارة بايدن من حكومة نتنياهو بشأن الشروط الإسرائيلية للملف الإيراني، فيما يترك الموضوع الفلسطيني جانباً لقناعة الجانبين بأن هذا الملف لن يكون ملحّاً ولا مفروضاً على جدول الأعمال قبل إجراء الانتخابات الفلسطينية، ومعرفة ما ستتمخض عنه.
مع ذلك، فإنه سبق لمركز أبحاث الأمن القومي أن أصدر تقدير موقف بشأن السياسة التي يقترحها على الحكومة الإسرائيلية للتعامل مع إدارة بايدن، وعلى رأسها تجنب أي احتكاك أو توجه صدامي مع الإدارة الجديدة، كي لا تفقد إسرائيل قدرتها على التأثير على مجريات المفاوضات مع إيران، وكي لا تكرر الخط الذي انتهجه نتنياهو في وجه إدارة أوباما، وبلغ أوجه في خطاب نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي، بدعوة من الجمهوريين، ضد سياسة أوباما، وضد الاتفاق النووي مع إيران. وأوصى المركز في وثيقته، وهي توصياته التي نشرها على موقعه في 11 يناير/ كانون الثاني الحالي، بأن تلتزم الحكومة الإسرائيلية بمنح الأولوية لمنع حصول إيران على سلاح نووي، ولو جاء ذلك على حساب المواضيع الأخرى.
وتكشف تصريحات نتنياهو بشأن عمق التزام بايدن بأمن إسرائيل، عن أن رئيس حكومة الاحتلال لا يعتزم بدوره اتّباع خطّ صدامي مع بايدن، وإن كان سيستخدم علاقاته مع إدارة ترامب، وموقفه ضد الاتفاق النووي، دليلاً على قدرته على مواجهة أي إدارة أميركية إذا اقتضت مصالح إسرائيل ذلك، وأن يوظف ذلك في المعركة الانتخابية الحالية. ويأتي ذلك خصوصاً أن خصم نتنياهو، ساعر، أعلن في تصريحات صحافية، أنه سيكون قادراً على إدارة العلاقات مع إدارة بايدن، بما يخدم المصالح الإسرائيلية وتحسين العلاقات مع الحزب الديمقراطي وإعادة إسرائيل إلى قلب الإجماع الأميركي، بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وإصلاح الضرر الذي سببته سياسة نتنياهو "للمكانة الخاصة التي تتمتع بها إسرائيل لدى الحزبين".