إبادة غير معلنة في الضفة الغربية: إسرائيل تبدل الخريطة الجغرافية والديمغرافية

08 أكتوبر 2024
في طولكرم بعد عملية إسرائيلية، 12 سبتمبر الماضي (Getty)
+ الخط -

بينما تتوجه أعين العالم نحو حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تعيش الضفة الغربية حرباً شرسة يشنها جيش الاحتلال ومليشيات المستوطنين عبر عمليات عسكرية دموية متلاحقة، وتهجير قسري واستيلاء على آلاف الدونمات من الأراضي بهدف إعادة هندسة الخريطتين الجغرافية والديمغرافية للضفة.
وترتكب إسرائيل في الضفة الغربية كل أنواع الجرائم من قصف مدنيين بالطائرات الحربية والمسيّرة، وإعدام مقاومين ومدنيين وجرحى بعد اعتقالهم والتنكيل بجثامينهم، وتعذيب أسرى لدرجة الاغتصاب، وعقوبات جماعية لا يمكن إحصاؤها من تدمير البنى التحتية، إلى فرض منع التجول، وصولاً إلى وضع أكثر من 700 حاجز وبوابة على مداخل المدن والقرى والبلدات لمنع الحركة والتنكيل بالمواطنين على الحواجز العسكرية، وتهجير السكان والاستيلاء على أراضيهم.

مقاومة مستمرة رغم القبضة الأمنية

ثقل القبضة العسكرية والأمنية الإسرائيلية على الضفة الغربية لم يمنع استمرار المقاومين عبر مجموعات مسلحة في مخيمات شمال الضفة الغربية من المقاومة، إلى جانب عمليات نوعية نفذها مقاومون بشكل منفرد، ما دفع جيش الاحتلال إلى إعلانه أن الضفة الغربية لم تعد "ساحة حرب ثانوية" بل "ساحة أساسية"، وذلك بعد تصاعد عمليات المقاومة واستخدامها عبوات شديدة الانفجار كبّدت الاحتلال خسائر مادية وبشرية غير متوقعة.

وبلغ عدد قتلى الاحتلال في الضفة الغربية 50 قتيلاً، وجُرح 377 ما بين جندي ومستوطن منذ السابع من أكتوبر 2023، حسب إحصائيات موقع بيانات فلسطين "مُعطى" الذي رصد 1807 عمليات إطلاق نار، و858 عبوة ناسفة، و40 عملية طعن، و23 عملية دهس، وسيارتين مفخختين، وعملية استشهادية واحدة. كما سجلت وزارة الصحة الفلسطينية استشهاد 742 فلسطينياً وإصابة 6250 آخرين، وأكدت مؤسسات الأسرى أن عدد حالات الاعتقال منذ السابع من أكتوبر 2023، بلغ نحو 11 ألف اعتقال.

حملات عسكرية لمواجهة العبوات والعمليات الفردية

استخدم جيش الاحتلال على مدار عام كامل الآليات الثقيلة في تدمير مدينتي طولكرم وجنين ومخيماتهما، إضافة إلى مخيم بلاطة في نابلس ومخيم الفارعة في طوباس، وكان استخدام الطائرات المسيّرة هو الأبرز في قصف المقاومين وصولاً إلى استخدام الطيران الحربي كما حصل في مخيم طولكرم مساء الخميس الماضي، وذلك ضمن عملية "المخيمات الصيفية" التي سمى بها الاحتلال عملياته العسكرية، وأطلقها نهاية أغسطس/آب الماضي في طولكرم وجنين ومخيماتهما واستمرت أياماً متواصلة.

استخدم الاحتلال الطائرات المسيّرة في قصف المقاومين وصولاً إلى استخدام الطيران الحربي

وعلى الرغم من أن الاحتلال يطلق اسماً مختلفاً لعملياته العسكرية، فإنه يبقى التدمير هو العنوان، حيث أطلق في مارس/آذار 2022 العملية العسكرية "كاسر الأمواج"، واستكمل الاحتلال في نهاية أغسطس الماضي عملية "المخيمات الصيفية"، وما بينهما من عملية "جز العشب"، مستمراً في ترجمة حرفية لما قاله وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت عبر هيئة البث الإسرائيلية في الرابع من سبتمبر/أيلول الماضي: "نحن الآن في مرحلة جز العشب بالضفة الغربية، وسيأتي وقت نقتلع فيه الجذور"، في إشارة واضحة إلى المخيمات.

الرد من الخليل

بينما انشغلت إسرائيل بعمليات عسكرية مكثفة لتدمير مخيمات شمال الضفة الغربية منذ بداية الحرب، بعد تصاعد خطر العبوات المتفجرة محلية الصنع التي يصنعها المقاومون وأودت بسمعة آلية "النمر" الثقيلة واخترقتها وقتلت من فيها من جنود في جنين وطولكرم، خرجت أقوى العمليات الفردية من الخليل، حيث كان الهدوء في جنوب الضفة مخادعاً، بشكل أدهش الاحتلال. وكان آخرها عملية إطلاق النار في يافا التي نفذها المقاومان محمد مسك وأحمد الهيموني (1 أكتوبر)، وأوقعت ثمانية قتلى في صفوف المستوطنين، وتبنّتها حركة حماس. سبقتها عملية ترقوميا غربي الخليل التي نفذها مهند العسود (1 سبتمبر/ أيلول) وأوقعت ثلاثة قتلى من عناصر الشرطة الإسرائيلية، قبل أن تتم محاصرته وقتله بعد عدة ساعات. وقبل 24 ساعة من عملية العسود، نفذ المقاومان محمد مرقة وزهدي أبو عفيفة، عملية مزدوجة عبر تفخيخ سيارتين في محيط مستوطنتي غوش عتصيون وكرمي تسور المقامتين شمال الخليل، وأدت لإصابة ثلاثة عسكريين إسرائيليين واستشهاد المنفذين.

وكان من اللافت هذا الكم من العمليات الناجحة التي خرجت من محافظة الخليل، التي لم ينفذ فيها الاحتلال عمليات عسكرية، ولا توجد فيها مجموعات مسلحة كما في شمال الضفة الغربية، التي شهدت عمليات نوعية مثل "بيت ليد" في نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، وأسفرت عن مقتل جنديين واستدراج قوة من الجيش، ولاحقاً تم بث صور فيديو للعملية على منوال ما تفعله المقاومة في قطاع غزة. محاولة القيام بعمليات نوعية استمرت في مخيم بلاطة قرب نابلس الأسبوع الماضي حين وثّق مقاومون بالصورة والدائرة الحمراء قنص جندي في المخيم.

عادل شديد: هناك توصيات أمنية إسرائيلية بعدم التعامل مع الخليل مثل طولكرم وجنين خشية انتشار الحريق

حول الخليل، قال المحلل السياسي عادل شديد، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك توصيات أمنية إسرائيلية بعدم التعامل مع الخليل مثل طولكرم وجنين خشية انتشار الحريق (أي المقاومة)، لأن المؤسسة الأمنية والعسكرية لديها شبه إجماع على أن الخليل تأخرت في الدخول على خط المواجهة في الانتفاضتين الأولى والثانية، وإسرائيل تأخرت كثيراً حين استطاعت أن تسيطر على المقاومة فيها".
وأوضح شديد أن هناك مصلحة بعدم جرّ الخليل إلى هذه المواجهة، لما لها من خصوصية تتعلق بمساحتها وحجم سكانها الأكبر مقارنة بمحافظات الضفة الغربية، والأهم الوجود الاستيطاني المكثف فيها، لذلك تكتفي إسرائيل بإغلاق الخليل بالبوابات والحواجز في إجراء وقائي، لمنع المقاومين من الخروج بسياراتهم في الشوارع الرئيسية بين المدينة وقراها وبلداتها حيث الجنود والمستوطنون، لأنه لا يمكن التنبؤ بمن سينفذ العملية الفردية المقبلة.

عمليات عسكرية واعتداءات بهدف التهجير

برأي محللين وسياسيين، إن العمليات العسكرية لجيش الاحتلال واعتداءات المستوطنين تهدف كلها إلى التهجير وإعادة الهندسة الجغرافية والديمغرافية للضفة الغربية، وخلق وقائع لا يمكن التراجع عنها. واعتبر الخبير في الشؤون الإسرائيلية عزام أبو العدس، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه كلما تعاظم فشل إسرائيل في قطاع غزة وعلى الجبهة الشمالية في لبنان، سترى في الضفة الغربية الحلقة الأضعف لضربها ولحسم موضوع الأرض، وبالتالي المرحلة المقبلة ستكون مرحلة التهجير، وهذا سيعززه وصول المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة.
وأوضح أبو العدس أن خطة التهجير الإسرائيلية تسعى لجعل الضفة الغربية مجتمعاً فاشلاً أمنياً واقتصادياً، وتكثف وجود المستوطنين المسلحين البشري والمادي بشكل كبير جداً، وتفكيك مناطق (ج)، وهو ما بدأ فعلاً منذ بداية الحرب على غزة وتحديداً الأغوار الفلسطينية. علاوة على ذلك، أشار أبو العدس إلى ما يقوم به المستوطنون من اعتداءات في القرى الفلسطينية، خصوصاً الموجودة بالأراضي المصنفة (ب) حسب اتفاق أوسلو، بهدف جعل الحياة فيها مستحيلة وإجبار الأهالي على ترك بيوتهم وأراضيهم للهجرة الداخلية إلى مناطق (أ)، مؤكداً أن الخطورة تكمن بأن أي واقع فرضته إسرائيل لا يمكن التراجع عنه.

تهجير التجمعات البدوية

اعتداءات المستوطنين المتواصلة منذ السابع من أكتوبر 2023، وصلت إلى نحو 3 آلاف اعتداء بحق التجمعات البدوية في الضفة الغربية، بينها تهجير قسري لأكثر من 42 تجمعاً بدوياً، طاول نحو 500 عائلة بدوية، أُجبرت على مغادرة مناطق سكنها الأصلية إلى مناطق أخرى. كما تم هدم وتخريب 16 مدرسة في تلك التجمعات، بحسب ما أكد المشرف العام لمنظمة البيدر للدفاع عن حقوق البدو حسن مليحات، لـ"العربي الجديد".
وأشار مليحات إلى أن هناك خطورة بمحاصرة من تبقّى من سكان تلك التجمعات داخلها ومنعهم من ممارسة مهنة الرعي بما هو أحد أبرز مقومات الحياة البدوية، ما يجعل بيئتهم طاردة لا تصلح للعيش، وإجبارهم على الرحيل ضمن ما يسعى له الاحتلال بتنفيذ خطة الحسم والسيطرة على الأرض بالضفة الغربية. وشدد على أن سياسة التهجير القسري التي تستهدف التجمعات البدوية في الضفة الغربية تحمل دلالات خطيرة تعكس المنهجية التي تتبعها دولة الاحتلال الإسرائيلي بالسيطرة على الأرض في المناطق المصنفة (ج)، إذ إن تلك التجمعات تمثل عنصراً هاماً في حماية الأراضي المقامة عليها التجمعات وكذلك الأراضي المحيطة.

حسن مليحات: سياسة التهجير القسري التي تستهدف التجمعات البدوية في الضفة الغربية تحمل دلالات خطيرة

وأوضح مليحات أن هذه السياسة تهدف إلى فرض بيئة قهرية وطاردة للتجمعات البدوية من خلال أساليب متعمّدة للترويع والترهيب والتهديد المستمر، بينما يستخدم الاحتلال والمستوطنون مجموعة من الأدوات لفرض هذه البيئة، تشمل منع البدو من الرعي، وحرمانهم من الوصول إلى مصادر المياه والخدمات الأساسية، مما يجعل استمرار الحياة في تلك المناطق أمراً شبه مستحيل.

تعزيز الهوية اليهودية في الضفة

وبرأي مدير مركز يبوس للاستشارات والدراسات الإستراتيجية الباحث سليمان بشارات، الذي تحدث مع "العربي الجديد"، فإن اليمين الإسرائيلي المتطرف يسعى لتعزيز الهوية اليهودية في الضفة الغربية، بشكل واضح، بدءاً من التصويت الساحق في الكنيست على عدم قيام دولة فلسطينية في يوليو/تموز الماضي، إلى قيام وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بالإعلان عن ضم مناطق (ب) وهي مناطق تحت السيطرة الإدارية الفلسطينية حسب اتفاق أوسلو، وما يقابل هذه الخطوات من ضعف سياسي فلسطيني.

سليمان بشارات: إسرائيل تقوم بتغيير الجغرافيا في الضفة الغربية عبر ضم أكبر مساحة ممكنة منها حتى تصبح في إطار الدولة اليهودية

وقال بشارات: "إن إسرائيل تقوم بتغيير الجغرافيا في الضفة الغربية عبر ضم أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية حتى تصبح في إطار الدولة اليهودية، وأصبح هذا أمراً واقعاً لا يمكن إنكاره". وأعرب عن اعتقاده أن هندسة البعد الديمغرافي تتكامل مع التغيير الجغرافي، وهذا واضح في العمليات العسكرية التي يقوم بها الاحتلال في مخيمات شمال الضفة الغربية لإرغام آلاف اللاجئين على ترك المخيمات وتوزيعهم في المدن القريبة على المخيمات، ما يفقدهم الهوية الوطنية والشعور بالاستقرار ويصبح البُعد النضالي ليس الأولوية، كما هو الأمر في التجمعات البدوية التي تم اقتلاعها وتهجيرها، حيث يسعى الاحتلال إلى التهجير الداخلي أي إعادة هندسة الديمغرافيا داخلياً من جهة، والتهجير الخارجي خارج الضفة الغربية من جهة أخرى.

المخيمات غير صالحة للسكن

يجمع الأهالي في مخيمات اللاجئين على أن مخيمي طولكرم (نور شمس، وطولكرم)، ومخيم جنين أصبحت أماكن غير صالحة للسكن، بسبب التدمير الإسرائيلي المستمر سواء للبنية التحتية من شوارع وشبكة صرف صحي ومياه وكهرباء وإنترنت، أو لهدم البيوت وقصفها حيث تتضرر عشرات البيوت عندما يقدم الاحتلال على قصف بيت واحد بسبب تلاصقها وقربها الشديد من بعضها البعض. وقدّرت اللجان الشعبية في مخيمي نور شمس وطولكرم، قرب طولكرم، ومخيم بلاطة قرب نابلس والفارعة قرب طوباس، خسائر البنية التحتية وهدم البيوت بملايين الدولارات، ولا تستطيع السلطة أن تتجاوز "المساعدة الإغاثية" للأهالي، بسبب الأزمة المالية التي تعيشها السلطة.

وقالت عضو لجنة شباب دعم مخيم طولكرم، نادية عوفي، لـ"العربي الجديد"، إن "ما يقرب من 70% من الشوارع والبنية التحتية في مخيم طولكرم قد تعرضت للتدمير، تمت صيانة الكثير من الشبكات، لكن يوجد تعطيل بشبكة الصرف الصحي بشكل كامل حتى اللحظة، الأمر الذي فاقم من معاناة أهالي المخيم بشكل ملحوظ". وأشارت عوفي إلى أن العديد من المنازل أصبحت غير صالحة للسكن، نتيجة الأضرار الكبيرة التي لحقت بها، إلا أن بعض العائلات ما زالت مضطرة للعيش في هذه البيوت المدمرة لعدم توفر الإمكانات المالية لاستئجار مساكن خارج المخيم، فبيئة المخيم باتت غير ملائمة للعيش، والأهالي يعانون بشكل يومي من الظروف المعيشية القاسية وخشية على أبنائهم من الرعب الذي يسببه جيش الاحتلال، وعدد منهم ترك المخيم وانتقل للعيش بمناطق أخرى.

الاستيطان لتغيير الواقع في القدس

ورأى مدير وحدة مراقبة الاستيطان في معهد أريج للأبحاث التطبيقية سهيل خليلية، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الاستيطان في محيط القدس كان نقطة الانطلاق لتغيير الواقع الاستيطاني بعد السابع من أكتوبر، فقد عمل سموتريتش على كل ما يلزم من أجل توسعة الطرق الاستيطانية في محيط القدس، وتنفيذ مخطط القدس الكبرى التي كان آخرها المصادقة على بناء مستوطنة تسمى ناحل حاليتز المقامة غرب بيت لحم، والتي تشكّل حلقة وصل بين مستوطنات القدس مع التكتلات الاستيطانية المقامة على أراضي بيت لحم والخليل".

سهيل خليلية: الاستيطان في محيط القدس كان نقطة الانطلاق لتغيير الواقع الاستيطاني بعد 7 أكتوبر

وأوضح خليلية أن أبرز ما تغيّر بعد السابع من أكتوبر، في الجانب الاستيطاني، هو ضلوع سموترتيش بشكل مباشر في القضايا الاستيطانية عبر السيطرة على الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية من خلال تعيين نائبٍ له مهمّته ملاحقة البناء الفلسطيني في المناطق المصنّفة "ج"، إضافة إلى تركيزه على رفع الميزانية المالية للمشاريع الاستيطانية منذ نحو العام حتى وصلت إلى 7 مليارات شيقل (نحو مليار و851 مليون دولار)، واستهدفت المشاريع تطوير البؤر الاستيطانية تمهيداً لشرعنتها إضافة لدعم المستوطنات القائمة بهدف توسعتها. وأشار خليلية إلى أن سموتريتش غيّر الإجراءات القانونية المرتبطة بالموافقة على المشاريع الاستيطانية ومراحل التخطيط والتنفيذ لها، ما انعكس على سهولة تنفيذ مخططات استيطانية بوتيرة أسرع، خصوصاً في مشاريع شقّ وتوسعة الطرق وتطوير البنى التحتية وبناء المناطق الاقتصادية الصناعية الاستيطانية، وتوسعة المستوطنات من دون المضي في الإجراءات والأذونات القانونية الداخلية.

المساهمون