- هيئة تحرير الشام، بقيادة أبو محمد الجولاني، تحولت إلى قوة مسيطرة في شمال غربي سورية، مواجهة تحديات داخلية وصراعات تعكس التنافس بين التيارات المختلفة داخلها، مع محاولات للتوازن بين إرضاء المجتمعات المحلية والدولية.
- اغتيال أبو ماريا القحطاني، الشخصية البارزة في الهيئة، يعكس التوترات الداخلية وقد يؤثر على مستقبل الهيئة والتيار الجهادي في سورية، مع توقعات مختلفة حول تأثيره على الديناميكيات الداخلية والعلاقات مع المجتمع المحلي.
مع أفول تنظيم داعش بسقوط آخر معاقله في بلدة الباغوز، شرقي سورية، في مارس/آذار 2019، على يد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بدعم من التحالف الدولي، تراجع المد الجهادي في سورية، وبدأت التنظيمات المتشددة الموجودة على الساحة في البحث عن صيغ جديدة لضمان استمرار وجودها، ومحاولة تكييف هذا الوجود وربطه مع مجتمعاتها المحلية، ابتعاداً عن فكرة الجهاد العالمي. ولعل الفصيل الأبرز الذي يمثل هذه التحولات، هو هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) بقيادة أبو محمد الجولاني. ويعكس تغيير اسم الفصيل المتكرر هذه التحولات ومسيرته في البحث عن خصوصية محلية بعيداً عن التنظيم الأم "القاعدة".
وبدأت الهيئة مسيرتها بمبايعة "القاعدة" له باسم "جبهة نصرة أهل الشام" قبل أن تفك ارتباطها به في يوليو/تموز 2016، لتسمي نفسها جبهة فتح الشام، ولتدخل بعدها في اندماج فصائلي شكلي باسم هيئة تحرير الشام، لكن الهيئة باتت عمليا تتفرد بالسلطة ضمن المنطقة التي تسيطر عليها في شمال غربي سورية. وشهدت "تحرير الشام" خلال السنوات الماضية، والأشهر الأخيرة على وجه التحديد، صراعات عدة، تخللتها انقسامات وانشقاقات، تعكس تنافس التيارات داخل الفصيل، وسعي زعيمها أبو محمد الجولاني لحفظ التوازنات في إطار معادلة مركّبة تستهدف محاولة إرضاء المجتمعَين المحلي والدولي، مع ضبط الجماعات الجهادية المحلية من دون التصادم معها، ليظلّ ممسكاً بخيوط لعبة التوازنات وسط كل هذه الاعتبارات قدر الإمكان. ويرى مراقبون أن اغتيال الرجل البارز في "تحرير الشام" أبو ماريا القحطاني أخيراً بعد أيام فقط على إطلاق سراحه من سجون الهيئة، قد تكون له تبعات كبيرة مباشرة على مستقبل الهيئة، والتيار الجهادي في سورية بشكل عام.
حمزة المصطفى: اغتيال القحطاني سيكون نقطة البداية في تفكك التيار الجهادي
في السياق، يعتبر الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية ساشا العلو، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن اغتيال القحطاني جاء في مرحلة ما بعد ضبط "الفضاء الجهادي" في سورية، والذي كانت "تحرير الشام" إحدى أدواته، إذ عملت على تقليم أظافر الفصائل الجهادية، وضبط نشاطها ضمن معايير محددة، في إطار سعيها لرفع اسمها من التصنيف الدولي الذي ينعتها بالإرهاب.
ويلفت العلو إلى أنه لن يكون هناك تأثير مباشر لاغتيال القحطاني على الهيئة، و"رأينا أن خروج شخصية وازنة ومسؤولة عن الملف المالي مثل أبو أحمد زكور، لم يؤثر على الهيئة"، مضيفاً أنه على الرغم من أن القحطاني كانت له أدوار متعددة، كعقدة تواصل مع أطراف خارجية عدة وعشائرية؛ إذ كان يقدم نفسه من هذا المنظور في لقاءاته مع وجهاء العشائر، لكن لن يكون لغيابه تأثير مباشر على الهيئة، ذلك لأنه ينتمي لعشيرة الجبور التي لا ثقل لها في محافظة إدلب. وعلى الرغم من ذلك، يرى العلو أن خروج وتحييد الشخصيات الوازنة المتواصل من الهيئة، يمكن أن يشكل صدعاً في داخلها، لافتاً إلى أن إخراج القحطاني من السجن وعدم تصفيته دليل على أنه شخص مؤثر، وهو ما بدا في طريقة نعي الجولاني بالبكاء عليه على نحو درامي، مفسراً ذلك بأنها محاولة منه لنفي التهمة عن نفسه بالوقوف وراء تصفية رفيق دربه.
وحول الأسباب التي تجعل "تحرير الشام" محصنة نسبياً من ارتدادات مثل هذه التطورات، يعتبر العلو أن الهيئة تحولت إلى "مزود خدمات أمنية" للقوى الخارجية، وهي بهذا الدور ما زالت بحاجة فعلية لتلك القوى، مشيراً إلى أن الجولاني يعرض على القوى الدولية مواصلة ضبط منطقة شمال غربي سورية في مقابل رفع اسم الهيئة من تصنيف الإرهاب، والحصول على مزيد من الشرعية السياسية. ويلفت إلى أن الجماعات الجهادية الأجنبية الناشطة في المنطقة مثل التركستانيين والشيشان والقوقاز، تخضع لمراقبة لصيقة من الهيئة من كل النواحي.
ويضيف أن الهيئة تراقب وتمسك بالخطاب الديني في مناطق سيطرتها، من خلال "هيئة الدعوة والإرشاد" التابعة لها. ويعرب العلو عن اعتقاده بأن غياب القحطاني سيدفع باتجاه مزيد من المركزية في الهيئة وتبلور القرار حول شخصية الجولاني، خصوصاً أن القحطاني كان آخر المتبقين من الرعيل الأول المؤسس في التنظيم، لكن مع الوضع الجديد ستكون الهيئة معرضة للتفكك في حال جرى اغتيال الجولاني نفسه، بسبب عدم وجود أي شخصية جامعة قادرة على إمساك كل الخيوط في هذا الفصيل.
وخلافاً لذلك، يرى الباحث المتابع لشؤون الجماعات الإسلامية، مدير تلفزيون سوريا، حمزة المصطفى، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن اغتيال القحطاني سيكون نقطة البداية في تفكك التيار الجهادي العامل في سورية، وهو "لا يقل أهمية عن اغتيال قادة أحرار الشام، الحدث الذي أرّخ لبداية انهيار الفصائل الإسلامية الوطنية المسلحة". ويلاحظ المصطفى أن الصورة التي خرج بها القحطاني من السجن مرتدياً بزته العسكرية الجهادية، مع موكب ضخم من المناصرين لاستقباله، كانت تشي بمواجهة آتية عنوانها الصدام مع الجولاني.
حسن أبو هنية: اغتيال القحطاني لن يغير أشياء كثيرة في مناطق شمال غربي سورية
من جهته، يذهب الباحث الأردني في الجماعات الإسلامية حسن أبو هنية، إلى القول إن اغتيال القحطاني لن يغير أشياء كثيرة في مناطق شمال غربي سورية التي تعاني مشكلات كبيرة. ويضيف أبو هنية في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن "تحرير الشام" هي الفصيل الأقوى في الشمال السوري، واستطاعت الصمود بفضل نمط من البراغماتية المحسوبة، بالاعتماد على الديناميكيات الداخلية والتحالفات الخارجية التي سعت للحافظ على هذا الفصيل. ويوضح أبو هنية أن للفصيل، إضافة إلى قوته الذاتية، قوة موضوعية مستمدة من دعم قوى خارجية لديها هدف مشترك مع الفصيل في القضاء على الفصائل الجهادية وخصوصاً "القاعدة"، معتبراً أن المشكلات الداخلية في "تحرير الشام" أو علاقاتها مع مجتمعها المحلي، لا تحوز اهتمام القوى الخارجية، التي تهتم فقط بضبط الوضع الأمني العابر للحدود.
كما يلفت أبو هنية إلى تراجع الاهتمام الدولي بملف الجماعات الجهادية العالمية، مع العودة للصراعات الجيوسياسية، لأن روسيا والغرب مشغولان اليوم بالحرب في أوكرانيا، بينما ينشغل العالم منذ ستة أشهر بالحرب الإسرائيلية على غزة. ويلاحظ أنه "مع تراجع أهمية العامل الخارجي، بدأت التفاعلات الداخلية تؤدي دوراً أكبر في التأثير على الهيئة والجماعات الجهادية، ونشهد تظاهرات تطالب بمكافحة الفساد والإفراج عن المعتقلين والنهوض بالوضع الاقتصادي"، متوقعاً ظهور مزيد من الانقسامات على أسس مناطقية وعشائرية.