عادت روسيا من جولات مفاوضات متعددة الأطراف، استمرت أربعة أيام، من دون أن تحقق الأهداف التي كانت تطمح للحصول عليها، بعد أن أوصلت الموقف في أوكرانيا قريباً من الانفجار، عملاً بمبدأ سياسة حافة الهاوية. وعقد دبلوماسيون من روسيا اجتماعات مع نظرائهم من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو" ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ما بين العاشر والثالث عشر من الشهر الحالي.
لا اتفاق بين روسيا وأميركا
وكانت البداية من جنيف، التي جمعت في مقر بعثة الولايات المتحدة نائبة وزير الخارجية الأميركية ويندي شيرمان مع نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف.
ومن أجل توجيه رسالة قوية إلى موسكو، أرسلت واشنطن وفداً كبيراً يضم مسؤولين من وزارتي الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي، الذي ينسق السياسات في البيت الأبيض.
خرجت الولايات المتحدة وروسيا من دون أي اتفاق بعد سبع ساعات من المفاوضات، التي وصفها كبير المفاوضين الروس بأنها كانت صعبة و"مهنية للغاية وعميقة وملموسة".
وعلى المنوال نفسه، رأت نظيرته الأميركية أنه "يجب أن نمنح الدبلوماسية والحوار الوقت والمساحة اللازمين لإحراز تقدم في مثل هذه القضايا المعقدة".
شيرمان تفاوضت ببرود أعصاب شديد، ولم تقدم أي تنازل
لا تقدم بخصوص أوكرانيا
ودارت الجولة حول قضيتين؛ المسألة الأوكرانية وما يتعلق بها، والموضوعات الثنائية التي ترتبط بالترتيبات الأمنية وشؤون التسلح في أوروبا. ولم يحقق الطرفان تقدماً بخصوص أوكرانيا، وخرجا من المفاوضات وقد تباعدت مواقفهما أكثر، مع تزايد القلق من احتمال انزلاق الموقف نحو المواجهة العسكرية، بعد أن حشدت روسيا قرابة 100 ألف جندي على حدود أوكرانيا، الأمر الذي ألقى بظلاله على جولة المفاوضات.
وعلى عكس ما توقع الروس بأنهم سيتمكنون عبر الضغط الميداني من ابتزاز واشنطن، فإن الدبلوماسية الأميركية تفاوضت ببرود أعصاب شديد، ولم تقدم أي تنازل، بل رفعت سقف مطالبها وتهديداتها بأن واشنطن وحلفاءها لن يقفوا موقف المتفرج إذا سعت موسكو إلى تغيير الحدود الدولية "بالقوة".
كما أن واشنطن لا يمكنها أبداً أن تقدم تعهداً بخصوص "سياسة الباب المفتوح لحلف شمال الأطلسي"، التي تتعلق بانضمام أعضاء جدد إلى الحلف، بحسب المندوبة الأميركية التي كانت تتكلم هنا عن أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا.
بدوره، أبدى المفاوض الروسي معارضة شديدة لإمكانية انضمام أوكرانيا إلى "الناتو". وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإنه كرر قوله "ألا تصبح أوكرانيا أبداً، أبداً، عضواً في الناتو". وكان هذا أحد أهداف الاجتماع بالنسبة إلى موسكو التي كانت تطمح إلى مراجعة كاملة لعلاقتها بالأطلسي.
وسجلت واشنطن على موسكو موقفاً، انطلاقاً من تصلبها هذا، في ظلّ الحشد العسكري الروسي الكبير، ما يبقي التوترات عالية، وسط مخاوف من غزو روسي لأوكرانيا، الأمر الذي أجبر ريابكوف على أن يخرج من قاعة الاجتماعات ويصرح للصحافيين بأنه "ليست لدينا نية لغزو أوكرانيا".
علماً أن ريابكوف حذر من قبل أنه إذا لم يوافق الغرب على مطالب روسيا بتراجع "الناتو" عن التوسع نحو أوروبا الشرقية، فسيواجه عواقب غير محددة من شأنها أن تعرّض "أمن القارة الأوروبية بأكملها" للخطر.
وجرى النظر إلى الرسائل المتناقضة من ريابكوف، بالتناوب بين التصالحية الحذرة والتهديدية الغامضة، على أنها تتماشى مع التقييمات الجديدة حول الجدول الزمني الروسي للتدخل المحتمل في أوكرانيا، مع بقاء المسؤولين الأميركيين قلقين للغاية بشأن غزو محتمل.
والقراءة الأقرب هي أن ريابكوف حاول الحفاظ على موقف مرن، من شأنه أن يسمح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يقرر في نهاية المطاف.
وسيكون قرار بوتين ما إذا كان سيستمر في هذه المحادثات في ظلّ الشروط التي تتيحها الولايات المتحدة، لا سيما أنه ظل ينظر بشكل متزايد إلى الدعم الغربي لأوكرانيا باعتباره تهديداً وجودياً، معتبراً أن الدولة المجاورة، التي كانت في السابق جمهورية سوفييتية، قد تحولت إلى "مناهضة لروسيا" يمكن للغرب استخدامها للهجوم، أو غير ذلك، ليضعف بلده.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن القوات الروسية قرب أوكرانيا لم تتزايد في الأسابيع الأخيرة بالقدر الذي توقعه مسؤولو المخابرات الأميركية قبل بضعة أسابيع.
ويشير ذلك إلى أن بوتين ربما لم يتخذ قراره بعد بشأن المضي قدماً في هجوم، أو التفكير في أمر أقل، مثل عمليات توغل جزئية وهجمات إلكترونية تهدف إلى شل البلاد، بدلاً من غزو واسع النطاق يعرف أنه مغامرة خاسرة ومرتفعة الثمن.
علماً أن عدداً من المواقع الالكترونية الحكومية في أوكرانيا تعرض، اليوم الجمعة، لهجوم معلوماتي كبير لم يُحدّد مصدره، حسب ما أعلنت السلطات.
لم يحصل تقدم في محادثات القضايا الثنائية بين أميركا وروسيا
القضايا الثنائية بين واشنطن وموسكو
وفي ميدان القضايا الثنائية بين أميركا وروسيا، لم يحصل تقدم في المحادثات، خصوصاً حول الحد من نشر الأسلحة النووية خارج الأراضي الوطنية لكل طرف، مع الإشارة إلى احتمال أن يتوصل الجانبان إلى تفاهم حول توقيع صيغة جديدة من اتفاقية الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، التي انسحب منها الطرفان سابقاً.
وأفاد مسؤولون أميركيون بأنهم رأوا انفتاحاً لتعميق المحادثات مع روسيا بشأن إحياء معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى، التي تخلت عنها الولايات المتحدة في عام 2019، بعد سنوات من اتهام روسيا بانتهاك شروطها.
وحظرت المعاهدة نشر الصواريخ التي يمكن أن توجه ضربة نووية من دون سابق إنذار. وقدم الجانب الأميركي بعض الأفكار حول القيود على الأماكن التي يمكن للولايات المتحدة وروسيا تحديد مواقع صواريخها.
مع العلم أن الولايات المتحدة لا تمتلك صواريخ متوسطة المدى في أوروبا، لذا، فإن الموافقة على حظرها مرة أخرى سيكون أمراً سهلاً، كما يقول الخبراء. لكنها احتفظت على مدى عقود بمجموعة من الأسلحة النووية التكتيكية في بلجيكا وإيطاليا وألمانيا وتركيا، ويمكن لروسيا أن تطلب حظرها أيضاً.
لا اختراق في محادثات روسيا وحلف شمال الأطلسي
جولة بروكسل بين روسيا وحلف شمال الأطلسي كانت متعددة الأطراف، واحتلت الضمانات التي تطالب بها موسكو الصدارة على جدول الأعمال.
وسبق لروسيا أن وجهت للحلف مذكرة تطالب فيها بتعهدات مكتوبة، وتوقيع اتفاقية أمنية تحدد مجال عمل "الناتو" في أوروبا، وتشمل أن لا يتوسّع الحلف شرقاً ليصل إلى حدود روسيا.
ولكن هذه الجولة التي استمرت طيلة يوم الأربعاء الماضي، وهي الأولى بين الطرفين منذ عام 2019، لم تحقق أي اختراق، وجاءت نتائج المباحثات مخيبة لآمال روسيا.
وأعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، في ختام المحادثات، أن "الوصول إلى حل وسط لم يكن سهلاً"، مشيراً إلى أن الحلف أعاد التأكيد على "سياسة الأبواب المفتوحة التي يعتمدها، وعدم استعداده للتراجع عن دعم حلفائه".
وجرى إبلاغ روسيا بأنها "لا تملك حق استخدام الفيتو على انضمام أوكرانيا المحتمل إلى الأطلسي"، بحسب ستولتنبرغ. وذهب الحلف أبعد بالطلب من روسيا سحب قواتها من أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا.
وقال نائب وزير الدفاع الروسي أناتولي أنطونوف: "قدمنا مقترحات للناتو، ولكنهم اختاروا تجاهلها، ما سيفتح المجال للصراعات".
واعتبر خبراء أوروبيون أن موسكو نجحت في ما فشل فيه الآخرون، إذ إنها وحّدت "الناتو". وكما هو واضح، فإن خوفها يأتي من الحلف وليس من أوكرانيا.
كما أن أهداف روسيا تتجاوز بكثير مستقبل أوكرانيا، وهو ما طرحته في مجموعة غير عادية من المطالب الشهر الماضي، وسعت من خلالها إلى تقليص الوجود العسكري لحلف "الناتو" إلى مستويات التسعينيات من القرن الماضي. وكان التحدي واضحاً في هذه النقطة، عندما طلب "الناتو" من روسيا سحب قواتها من أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا.
أهداف روسيا تتجاوز بكثير مستقبل أوكرانيا
جولات ماراثونية حول أوكرانيا
وما لم يتحقق في اجتماعي جنيف وبروكسيل، لم يحصل في مفاوضات يوم الخميس في فيينا، التي استضافت جولة اجتماعات روسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وانتهت من دون تحقيق أي اختراقات.
ولم تتوقف الجولات الماراثونية حول أوكرانيا عند هذا الحد، إذ عقد وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي اجتماعاً، يوم الأربعاء الماضي، في مدينة بريست الفرنسية.
وتلا ذلك، يوم الخميس، اجتماع مشترك بين وزراء الدفاع والخارجية للاتحاد الأوروبي من أجل وضع استراتيجية أوروبية مشتركة حيال أزمة أوكرانيا، تعرض على القمة الأوروبية في مارس/آذار المقبل.
وهذا يعني أن الأوروبيين يشاركون الولايات المتحدة قلقها بشأن مخاطر الغزو العسكري الروسي، كما ورد في ختام جولات المباحثات على لسان مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان. ولكن أوروبا على قناعة بأن احتمال الغزو الروسي مستبعد في المدى القريب.
ملاحظات في ختام الجولات
ثمة جملة من الملاحظات التي يمكن تسجيلها في ختام هذه الجولات من المفاوضات متعددة الأطراف. الأولى هي أن روسيا لم تحقق شيئاً ملموساً من الشروط والمطالب التي ضغطت من أجلها.
ولكن ذلك لا يعني أنها خرجت خاسرة كلياً، بل هي حققت أهم إنجاز، وهو إعادة عملية التفاوض التي توقفت منذ ثلاث سنوات، بعد أن انسحبت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من اتفاقية الأسلحة النووية متوسطة المدى.
روسيا لم تحقق شيئاً ملموساً من الشروط والمطالب التي ضغطت من أجلها
الملاحظة الثانية هي أن روسيا أكدت أنها رقم أساسي في الأمن الأوروبي، وهذه الجولة ليست سوى بداية الطريق بانتظار جولات أخرى خلال الشهرين المقبلين.
وعلى الرغم من أن الخطاب الصادر عن موسكو سلبي، فإنه يتجاوز أوكرانيا، ويركز على المزيد من المفاوضات التي لا بد من أن تفضي إلى اتفاق في نهاية المطاف.
أما الملاحظة الثالثة فهي أن الخلافات برزت بين واشنطن وموسكو. وبعدما وجه الروس مقترحات مكتوبة بشأن الضمانات الأمنية للولايات المتحدة، فهم ينتظرون بالتالي رداً مكتوباً، يتوقف عليه شكل العلاقات بين بوتين وإدارة جو بايدن.
الملاحظة الرابعة هي أن الموقف الأوروبي في مواجهة روسيا غير موحّد، فهناك دول تلعب في الملعبين، مثل فرنسا التي تضغط من أجل وقف كل الخطوات الروسية تجاه أوكرانيا، وتعمل من أجل المحافظة على علاقات جيدة مع موسكو.
ويأتي ذلك في الوقت الذي يتردد في أوساط القادة الأوروبيين أن أوروبا مهمشة، وليست شريكة فعلية في المفاوضات التي تدور من حولها بين أميركا وروسيا، ولذا سيردون من خلال القمة الأوروبية المقبلة.
المحادثات في جنيف وبقية العواصم الأوربية مهمة، وأصبح من الواضح أنه ليست لدى روسيا خطة لتهدئة أزمة أوكرانيا، بل لإطالة أمدها. ويقف الطرفان على النقيض في أزمة لم تشهد لها أوروبا مثيلاً منذ وقت طويل.