في ذروة "الربيع العربي" عام 2011 سارع بعض الغربيين، تحت شعار "الوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ"، إلى اتخاذ مواقف جديدة من الرأي العام العربي في بدايات تشكله. لكن، مع هذا التردي المُتعمد في المنطقة، يهرع الجيران الأوروبيون، دون حرج كبير، إلى القفز العالي عما قيل لعقود حول "سياسات القيم والمبادئ" في العلاقات الخارجية.
فدبلوماسية "حماية المصالح" تتسارع في شمال أفريقيا والمشرق العربي، بحجة الوقائع الجديدة التي خلقها الغزو الروسي لأوكرانيا، من بين قضايا أخرى كثيرة. وما نشهده اليوم من "تكويع" أوروبي، ليس في بعضه إلا عصرنة العودة إلى الأصل التاريخي لعلاقة القارة ببقية جيرانها جنوباً بعد الحرب العالمية الثانية.
وارتفاع وتيرة خطابي "السياسات الواقعية" و"البراغماتية"، يظهر بوضوح أي نوع من الجيران يريده هؤلاء في جنوب وشرق ضفة البحر الأبيض المتوسط، في تفضيلهم حماية "حديقتهم"، وإن بتسييجها بـ"غابات" محكومة بأوليغارشية عسكريتارية-أمنية، في سياسات خارجية جديدة - قديمة.
ففي هذه الأيام، ثمة سياسات أوروبية تتشكل بعيداً عن شعارات "الحقوق العالمية". إذ حتى الدنمارك، الإسكندنافية، والتي سوّقت لعقود أن سياساتها الخارجية تقوم على عالمية المبادئ والحقوق، تنخرط اليوم في المفاضلة بين الشعارات والعلاقة بأنظمة قادرة على تقديم ما يحفظ مصالحها، بغض النظر عن "الجانب الصحيح من التاريخ".
وإذا كانت رئيسة وزراء الدنمارك ميتا فريدركسن تنتمي إلى يسار الوسط الأوروبي، فإن الإيطالية جورجيا ميلوني، المتهمة بعلاقات شبه فاشية، لديها ذات الخطاب المصلحي والانتهازي، وهو ما ينسحب على كثيرين في القارة العجوز، مع صعود تيار سياسي يُفضل علاقات خارجية، تضمن وقف تدفق المهاجرين/اللاجئين، ومصالح الطاقة.
هكذا ببساطة ينسى الجيران الأوروبيون أن الناس لا يعيشون اليوم في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، بل في حيز معرفي عالمي، يقدم للشارع صوراً واضحة عن انحياز بعضهم إلى الجانب الخطأ من التاريخ. والمشكلة ليست في المواقف اللفظية، المتراجعة عن القيم والمبادئ، بل في رسم السياسات على أساس الاستهتار المزدوج، مع منظومات الحكم المحلي، بقيمة وحقوق شعوب بأكملها، لأجل مصلحة "ازدهار" ومستقبل "الجنة الأوروبية".
تعاظم هذا التيار الأوروبي، الذي يولي أهمية أعلى لحراسة حدود مصالحه، يعني ببساطة أنه غير آبه بالأثمان المفروضة على شعوب المنطقة. وذلك لن يولّد سوى ذاكرة ناقمة، تقرأ جيداً المفاضلة الجارية بين الشعوب والأنظمة، وهو ما سيُنتج مستقبلاً سياسات جُربت لعقود مضت.