على الرغم من هبوط الإصابات والوفيات في الأسبوع الأخير، ما زال كورونا مشكلة المشاكل في أميركا. أرقامه، بمعدل 85 ألف إصابة و1600 حالة وفاة يومياً، لا تزال عالية بعد عشرة أشهر من حملة التطعيم. انتقاله من ولايات إلى أخرى يسبّب إرباكاً وخللاً في مختلف القطاعات، خصوصاً العمالية وقنوات توريد البضائع وإمداداتها، ما انعكس سلباً على إدارة الرئيس جو بايدن.
الأخطر أنه يهدد بـ"طفرة أخرى يمكن أن يؤدي تراكم تداعياتها إلى ولادة متحور جديد وخطير"، مع اقتراب أعياد آخر السنة، لو بقيت نسبة الذين تلقوا اللقاح عند الحد الراهن 57,1%، وفق المرجع الطبي أنتوني فاوتشي. في أقله، ينبغي أن تزيد على 70% لتنحسر موجة العدوى. لكن التجاوب بطيء في أحسن حالاته، وقسم كبير من الرافضين للتطعيم متأثر بتوجيهات سياسية يبدو غرضها عرقلة الحملة، وبالتالي إفشال رئاسة بايدن، وذلك من خلال تصوير جرعات اللقاح بمثابة مصادرة "لحرية الفرد"، خصوصاً في حالات التطعيم الإجباري في بعض الإدارات الرسمية والمؤسسات الخاصة.
لكن السياسة ليست وحدها العامل المعرقل. فهناك جزء من العزوف عن التطعيم ناتج من تزايد البلبلة والاستعجال والضبابية في إدارة الحملة، ما أدى إلى إجراءات نصفية ومترددة عززت الشكوك في هذه الخطوة الوقائية، خصوصاً الجدل الذي دار حول إلزامية التطعيم، والحاجة إلى جرعة الدعم الثالثة، وما رافقها من إرشادات ضبابية وغير موثوقة في البداية. تبع ذلك أو ترافق معه، نقاش وتردد واسعان بشأن تطعيم معلمي المدارس ورجال الشرطة والطلاب بحدود أعمار معينة، ثم الحوامل، وأخيراً الأطفال بين 5 و11 سنة الذين أصدر اليوم البيت الأبيض خطة لتطعيمهم.
وفي كل هذه الحالات، تنوعت الردود بين الموافقة والامتناع. ووسط ذلك، بقي سؤالان مفتوحان: إلى أي مدى تستمرّ فعالية اللقاح، وخصوصاً بعد الجرعة الثالثة؟ ثم ما احتمالات تفريخ متحور جديد مثل "دلتا" أو أخطر منه؟ أنتوني فاونشي لم يستبعد هذا الاحتمال ولا المراجع الطبية أيضاً. الجواب المعتمد في هذا الخصوص: "ليس بوسع أحد أن يطلق التوقعات عمّا سيحصل". وفاة الجنرال كولن باول قبل يومين بعد إصابته بالفيروس، رغم أنه مطعّم بجرعتين، عززت علامات الاستفهام والقلق، ولو أنه كان مصاباً بالسرطان. حالته عززت اعتقاد المشككين في أن اللقاح لا يساعد أصحاب المناعة الضعيفة.
أميركا التي سبقت غيرها في إنتاج أهم ثلاثة لقاحات فعالة، تكبدت حوالى 750 ألف حالة وفاة حتى الآن، والحبل على الجرار. عدّتها المتفوقة في هذه الحرب لم تشفع لها في الميدان.
بدت في ذلك أقرب إلى حربها في أفغانستان: آلة عسكرية كاسحة، لكنها لم تكن كافية لحسم المعركة. التحدي كان أصعب. وصعوبته في الحرب على كورونا، أن شمولية التطعيم شرط للقضاء على الفيروس في حدوده المعروفة حتى اللحظة، وفي غياب المعالجة القاضية عليه. وهذا غير متوافر حالياً، لا في الساحة الأميركية، ولا في الساحة الدولية.
وإزاء هذا الخطر المفتوح، بدأ الحديث عن ضرورة الاستعداد لإعادة التموضع واستنباط أنماط العمل الملائمة للتكيف مع الجائحة ولزومياتها، التي بدأت بنقل المكتب إلى المنزل طوال العشرين شهراً الماضية، وحتى إشعار آخر. ومنها أيضاً تعزيز دور القطاع العام، والتعويل على موارده إذا طالت إقامة الفيروس، لتقديم الدعم والمساعدات للجمهور، كما جرى في معظم فترة كورونا التي بدأت في مطلع عام 2020. لكن الأوساط الطبية لا ترى أن الصورة قاتمة إلى هذا الحدّ، ولو أنها تعترف بأنّ الكلفة كانت بالغة، وكان بالإمكان تفاديها. فهي، بحسبان كثير من المراقبين، ترتّبت بنتيجة مزيج من القصور في التعامل ومن التسييس للفيروس، مع التذكير بأنّ "الأوبئة تغيّر عادة من حال المجتمعات".