تحت ضغوط هائلة ومتنوعة، اضطر زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ الأميركي، السناتور ميتش ماكونيل، أمس الأربعاء، إلى التراجع عن تهديده بسد الطريق أمام مشروع قانون يجيز "رفع سقف الدين العام" قبل الثامن عشر من الشهر الجاري.
فمع حلول هذا التاريخ، تصبح وزارة المالية عاجزة عن توفير التمويل اللازم لتسيير العمل الحكومي في سائر القطاعات وأيضا غير قادرة على تسديد الديون والفوائد المستحقة على سندات الخزينة، إلاّ إذا سبق وأجاز لها الكونغرس اقتراض المال الذي تحتاجه. في غياب ذلك يحصل تخلف عن سداد الديون والمستحقات وبما يوازي حالة الإفلاس ولو من دون إعلانها.
ولتفادي الوصول إلى هذا الوضع، فرض الدستور وجوب وفاء الحكومة بالتزاماتها المالية. ولهذا لم تتردد الإدارات المتعاقبة منذ مطلع القرن الماضي في اللجوء إلى خطوة الاقتراض عند اللزوم. بين 1962 و2011 لجأت إلى رفع سقف المديونية 74 مرة، لتوفير التمويل المطلوب. وفي معظم الحالات، كان يحصل ذلك بتوافق الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس وبأقل ما يمكن من التسييس، لأن الحفاظ على التصنيف الائتماني لأميركا مسألة أساسية لا يحتمل بلد الدولار التلاعب بها.
فالتلكؤ عن تسديد هذه الفواتير في أوقاتها من شأنه هزّ الثقة بالالتزامات المالية الأميركية مع ما يتسبب به ذلك من انعكاسات وخضات سلبية في النظام المالي والمصرفي العالمي، خصوصا أن سندات الخزينة الأميركية تستخدم كالدولار ويستعملها مستثمروها كضمانات وكفالات في تعاملات مالية دولية. هذا عدا عن المضاعفات الاقتصادية المحلية التي لا بد وأن يؤدي إليها وقف دفع المستحقات الدورية للموظفين والمتقاعدين والعسكريين وجيش المتعاقدين مع الدوائر والوزارات الفيدرالية. مثل هذا الانقطاع غير المعهود من شأنه أن يؤدي حسب تحذيرات الخبراء، إلى ركود اقتصادي موجع وطويل، خصوصا إذا تزامن مع تداعيات كورونا على الوضع الاقتصادي التي لم تنته بعد.
في موقفه الممانع لتمرير قانون يرفع سقف الدَّين، تمادى السناتور ماكونيل وفريقه الجمهوري في تسييس الموضوع. إصراره من البداية على إفشال رئاسة جو بايدن وتأكيده في الأيام الأخيرة على عدم التزحزح، أثار مخاوف من وقوع هزّة مالية اقتصادية. انعكس ذلك في اضطراب أسواق الأسهم وتزايد اللغط إثر تحذيرات جدية أطلقتها وزيرة الخزانة جانيت يلين التي رسمت صورة قاتمة للتداعيات إذا تمسك ماكونيل بموقفه.
المخرج الوحيد في هذه الحالة أن يلجأ الحزب الديمقراطي إلى ما يسمى بالحل "النووي"، أي بتغيير واحدة من قواعد التصويت تعرف باسم "ورقة التعطيل" التي يتسلح بها الحزب الجمهوري والتي تسمح لأي سناتور بوقف عملية التصويت ما لم يحظ القانون بتأييد 60 صوتا وما فوق. لكن الإجماع الديمقراطي على مثل هذا التغيير غير متوفر حتى الآن. الخيار الآخر كان ما لجأ إليه بايدن باستنفار وول ستريت للضغط على الجمهوريين، وكانت محاولته في محلها. فبعد اجتماعه أمس بمجموعة من مديري كبار البنوك الأميركية، تضاعفت الضغوط التي لا يقوى ماكونيل على صدّها فسارع إلى التراجع والقبول برفع سقف الدين حتى أوائل ديسمبر/ كانون الأول القادم، معللاً موافقته بأنها خطوة مؤقتة حرصا على سلامة الأوضاع. لكنه تعليل لحفظ ماء الوجه، فهو لا يقوى على التمادي في لعبة "تفليس" أميركا، خاصة أن انتخابات الكونغرس صارت على مسافة 12 شهرا فقط.
بذلك، كسب بايدن جولة مكابشة مع الجمهوريين في لحظة هو يحتاج فيها لتسجيل أي نقطة لصالحه. رصيده هبط إلى حدود 38% حسب آخر استبيان للرأي. يعكس هذا الرقم ضعف أدائه عموما، خصوصا في تسويق برنامجه لتجديد البنية التحتية وبالتحديد في شقها الاجتماعي. راهن على "التعاون" مع الجمهوريين في الكونغرس. لكنه لم يحصل منهم سوى على الفيتو. كما أنه لم يقو حتى اللحظة على زحزحة اثنين من حزبه الديمقراطي في مجلس الشيوخ لدعم برنامجه. فرّط في الوقت وتأخر في التواصل مع الجمهور لشرح "عقده الجديد" والترويج له. بفرضه التراجع على خصومه في موضوع الدين وتمويل الحكومة، حقق قدراً من الزخم، وبالتالي فرصة أخرى لتحسين وضعه وتمرير خطته في الكونغرس، إلا إذا تعثر من جديد.
أميركا ليست مهددة بالإفلاس المالي في أقله بالمدى المنظور، ولو أن ديونها بلغت أكثر من 28 تريليون دولار، الثانية بعد اليابان في نسبة مديونيتها إلى الدخل القومي، 125% مقارنة بـ 234%. أميركا مهددة بـ "الاختلال السياسي"، على حدّ تعبير وزير الخارجية السابق جيمس بيكر، الذي حملته الظروف الأميركية الراهنة على كسر صمته بعد غياب طويل.