بعمر الدول، أميركا فتيّة. بعمر الدساتير، عتيقة، بل الأعتق. ثنائي أدّى مع ظروف فريدة إلى تكوين تجربة متفوقة بمقاييس القوة والاقتصاد والإنجازات، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية. لكن هذه الرحلة المتميزة وصلت مع هذه السنّ إلى مفترق طرق، أو إلى امتحان قاسٍ آخر. أعطابها السياسية والاجتماعية المزمنة والمتراكمة، بالإضافة إلى الالتهابات، ولو المتقطعة للجرح العنصري المتجدد، كلها تضافرت مع بعضها لتنفجر بعد انتخابات الرئاسة الأخيرة، وبصورة هدّدت المؤسسات الدستورية لأول مرة منذ الحرب الأهلية قبل 160 سنة. وقد يتكرر ذلك، وبما هو أفظع، في الانتخابات القادمة وربما قبلها، حسب تقديرات السلطات الأمنية التي تحذر من "الخطر القائم للإرهاب والعنف المحليين" لليمين القومي الأبيض.
على هذه الخلفية، احتفلت أميركا أمس الأحد بعيد استقلالها. ومع أن الاحتفال جرى بالطرق العادية التي شملت استعراضات الألعاب النارية وحفلات وطنية في واشنطن وبقية المدن الكبرى، فإنه لم يقوَ على حجب التوتر. الرئيس جو بايدن حاول ترطيب الأجواء بكلمته التي ألقاها في المناسبة، والتي استعان فيها بالتحسن الجاري على جبهتي كورونا والوضع الاقتصادي، لشدّ العصب. فهو يعرف أن الأمور تحت السطح ليست على ما يرام.
الانقسام السياسي بلغ حدّ "الانفصال العقلي" كما وصفه أحد الباحثين. الحزب الجمهوري، وخصوصاً فريق ترامب في صفوفه، على شبه قطيعة مع الديمقراطيين والبيت الأبيض. يرى أن مهمته محصورة بـ"إفشال أجندة بايدن" حسب زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ السناتور ميتش ماكونيل. وفعلاً هذا فعله حتى الآن. منع حتى تمرير قرار في مجلس الشيوخ لتشكيل لجنة مشتركة للتحقيق في اجتياح الكونغرس، الذي اعتُبر بمثابة اعتداء على الدستور. الخصومة تحولت إلى "عداوة" وفق الباحث يوني إبلبوم، وبما "أفقد ثقة المواطن بالمؤسسات السياسية، وحمل كلّاً من الصوت الليبرالي في كاليفورنيا والمحافظ في تكساس، على تجديد الحديث عن رغبة الولايتين بالانفصال".
ومع أن مثل هذا الاحتمال، غير وارد عملياً حتى في المدى المنظور، فإن سيرته التي تتردد من حين إلى آخر أخذت دفعة خلال الأحداث التي أعقبت الانتخابات، كما أعطت مادة إضافية للمنظرين في هذا الاتجاه، مثل المحافظ والسياسي باتريك بيوكانن، الذي تساءل في كتاباته الأخيرة عما إذا كان بالإمكان استمرار "التعايش مع الفريق الآخر؟"، والذي علّق أخيراً على حوادث القتل بقوله إن أميركا تمرّ في "حالة انفراط". والمعروف أن خطابه مؤثر في أوساط القوميين البيض، ولا بد أنه يساهم في راديكالية المتطرفين منهم، "والترويج للخوف من الآخر"، وبما يزيد من الكراهية ضده، خصوصاً أن مثل هذا الخطاب يجري تسويقه بواسطة منظومة إعلامية فاعلة لليمين، ولها حوالي 200 وسيلة إعلام محلي موزعة في الولايات.
في المقابل، تقوم المنظومة الإعلامية والسياسية الليبرالية بالردّ بالمثل، بما أدّى إلى تجذير الخندقين والخطابين. ويربط المراقبون هذا الانقسام الحاد بعاملين أساسيين: تزايد الاختلال في التركيبة السكانية، وتنامي الفروقات في المداخيل. الأبيض يتوجس من الملوّن والأقليات عموماً التي تقترب من ترجيح كفة العدد لصالحها، ربما قبل منتصف القرن. والأقليات تتذمر من ضآلة حصتها من الدورة الاقتصادية.
الجديد في المعادلة أن الجناح "التقدمي" في الحزب الديمقراطي في مجلسي الشيوخ والنواب التقط مطالب الأقليات، وحقق بعض النجاح في الانتخابات من خلالها، ثم عمل على فرض بعضها على أجندة الرئيس بايدن. ومع هذا، الفريق ما زال صغير الحجم في الكونغرس - حوالي 15 - إلا أنه تمكن من إثبات وجوده في ضوء شبه المناصفة القائمة بين الجمهوريين والديمقراطيين، وبالتالي حاجة البيت الأبيض لأصواتهم في الكونغرس. صارت ورقة هذا الفريق حاسمة أحياناً. وبهذا، تمكّن من رفع درجة مطالبه ليس فقط على صعيد البرامج الاجتماعية، بل أيضاً على مستوى تطوير الآليات والمؤسسات الرئيسية مثل "الدستور ومجلس الشيوخ"، وضرورة وضعها في إطار يعكس المتغيرات والاحتياجات لغالبية الأميركيين. ومثل هذا التوجه يلقى صداه في بعض "الاعلام والمجال الأكاديمي"، وبما يكسبه المزيد من الثقل والقدرة على التأثير.
إدارة الرئيس بايدن تجد نفسها الآن أمام أميركا مشروخة، يحتدم الصراع على ساحتها بين "يسار ليبرالي يتقدم سياسياً، وبين يمين محافظ - شعبوي ترامبي - تسود ثقافته" حسب المؤرخ الرئاسي جون ميتشم. صراع قد يجعل من المتعذر الاحتفال بعد خمس سنوات بمرور 250 سنة على ولادة أميركا "لأننا كأميركيين لم نعد متوافقين على تعريف أنفسنا، أو على من يجب أن نكون"، بتعبير الاستاذة الجامعية جانيفر بويلن.
هو، أي بايدن، تعهد برد أميركا إلى نفسها. السوابق تدعم وعده. أميركا تجاوزت تحديات كانت قاتلة أحياناً، ومع ذلك مهمته ليست سهلة.