ظلّت حركة "طالبان" في أفغانستان، منذ نشأتها في عام 1994 على يد الملا عمر مجاهد، تتسم بالتماسك، لذلك باءت بالفشل كل المحاولات، الداخلية والخارجية، لتفكيك وحدتها على مدى العقدين الماضيين. لكن يبدو أن هذا الوضع قد بدأ يتغير تدريجياً خلال الفترة الأخيرة، متجاوزاً حدّ الاختلاف في وجهات النظر داخل الحركة.
قياديون مهمّشون داخل "طالبان"
وكان المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد، قد حاول في 16 من شهر فبراير/شباط الحالي، التخفيف من حدة التباينات داخل "طالبان"، قائلاً في بيان صحافي، إن الحركة كانت ولا تزال وحدة متماسكة تحت إمرة أمير واحد، الملا هيبة الله أخوند زاده، وهو يتمتع بالطاعة والولاء. وأقرّ مجاهد بـ"وجود اختلافات في وجهات النظر بين قياديي الحركة، وهو أمر حصل في الماضي ولا يزال" يحصل، إلا أنه أكد أن "الجميع يصغون إلى أوامر الزعيم ويطيعونه".
وجاء كلام مجاهد، في ظلّ تعالي أصوات داخل الحركة، لقياديين بارزين فيها يتمتعون بنفوذ سياسي وميداني وقبلي، ضد زعيم الحركة ومن يحيط به من صقور "طالبان"، الذين يتشاور معهم في اتخاذ القرارات، مقابل تهميش آراء أخرى لقيادات في الحركة تخصّ قضايا مهمة، من أبرزها تعليم الفتيات، وفتح المدارس والجامعات، وقضية عمل النساء في المؤسسات الحكومية والخاصة، والتعامل مع وسائل الإعلام وحرّية التعبير، علاوة على كيفية التعامل مع دول العالم من أجل انتزاع الاعتراف الدولي.
الأصوات المنتقدة من قياديي الحركة لقرارات زعيمهم بارزة وتتمتع بنفوذ سياسي وميداني وقبلي
وسُجلت أولى إرهاصات التذمر، بعد فترة زمنية قصيرة من سيطرة "طالبان" على كابول (أغسطس/آب 2021)، إذ بدأ قياديون في الحركة من الصف الثالث ينتقدون السياسات التي تعتمدها "طالبان"، لكن تلك الأصوات كانت قليلة وضعيفة. أما اليوم، فقد بدأت الأصوات ترتفع أكثر ضد زعيم وسياسات "طالبان"، من قبل قياديين من الصف الأول.
وقال وزير الداخلية في حكومة "طالبان"، سراج الدين حقاني، وهو زعيم "شبكة حقاني"، في خطاب له في ولاية خوست، في 11 فبراير، إن "هناك أنانية إلى حد يرى معه بعضهم أن ما يرونه هو الصواب لا غير، بالتالي لا بد من فرضه على الشعب. أيها الناس أقول لكم إن الأمر بات لا يُحتمل، لقد غلب على بعضهم حب آرائهم إلى حد أنهم يتحدون النظام ويدفعونه نحو الخطر".
واعتبر حقاني، الذي يعدّ أحد أقوى الشخصيات داخل الحركة بعد زعيمها الملا هيبة الله وبعد وزير الدفاع الملا محمد يعقوب (نجل مؤسس الحركة الملا عمر)، أن هذا السلوك يشكّل "إساءة للنظام واقتصاراً للسلطة، وهذا مزاج بعض الناس"، مشدداً على أن "هذا الأمر لا يُحتمل". ولم يوجّه حقاني في كلمته انتقاداً مباشراً إلى أي من قياديي "طالبان"، أو يذكر اسماً معيناً، غير أن العارفين يعلمون أن قصده كان ثلّة صغيرة من قياديي الحركة الذي يلتفون حول زعيمها ويلعبون دوراً أساسياً في اتخاذه قراراته.
لكن نائب رئيس الوزراء في حكومة "طالبان" المولوي عبد السلام حنفي، وهو ممثل الأقلية الأزبكية في حكومة "طالبان"، ذهب أبعد من ذلك وبوضوح أكثر، حين قال في كلمة له أمام اجتماع في كابول في 15 فبراير الحالي، إن "مفتي البلاد إذ يقول إن هذا حرام وهذا حرام وهذا ممنوع وهذا محظور، عليه أن يبحث عن البدائل أيضاً، وألا يكون كل شيء محرماً، هذه مسؤولية الدولة أن تبحث عن البدائل وتستمع إلى آراء الشعب". واعتبر حنفي أن "الحرية لا يمكن الحفاظ عليها إلا بواسطة العلم، خصوصاً العلوم العصرية".
بدوره، شدّد وزير المعادن، المولوي شهاب الدين دلاور، وهو عضو سابق في المكتب السياسي للحركة، في الاجتماع نفسه، على أن "الشعب يفوز دائماً في كل المعارك والصراعات، ولكن المشكلة في القيادة، إذ بسببها نخسر دائماً، من هنا على القيادة أن تنظر بدقة وأن تراقب ما تقوم به". كما اعتبر وزير الدفاع الأفغاني الملا يعقوب، وهو نجل مؤسس الحركة الملا عمر، في اجتماع كابول، أن "حلّ جميع المشاكل يكمن في أن نصغي إلى مطالب الشعب الحقيقية والواقعية، إذ من دون ذلك لا مشروعية للحكومة".
في المقابل، حذّر المتحدث باسم حكومة "طالبان"، ذبيح الله مجاهد، خلال مؤتمر صحافي عقده بعد يوم واحد من كلمة سراج الدين حقاني، من أن "للانتقاد آداب وأخلاق، وليس منها الحديث والانتقاد على الملأ العام"، ولكن من دون يسّمي حقاني.
ومقابل الانتقادات للقيادة، ارتفعت أصوات تدافع عنها. وأكد حاكم ولاية قندهار محمد يوسف وفا، في 13 فبراير، خلال اجتماع عُقد في مدينة قندهار، أن "الجميع بايعوا زعيم الحركة الملا هيبة الله أخوند، من هنا على الجميع إطاعته واتباعه في المنشط والمكره (السهل والصعب) ولا يمكن التنازل عن الشريعة الإسلامية".
يتطلع تيار خصوصاً من الشباب، نحو تبني سياسات أقل تشدداً، إرضاء للشعب وإتاحة للتواصل مع العالم
كما جزم شيخ محمد هاشم، وهو عالم دين وأحد المقربين من زعيم الحركة، في كلمة أمام أساتذة جامعة كابول في 13 فبراير "إننا سنطبق الشريعة الإسلامية كما طُبّقت في زمن النبي محمد صلاة الله عليه والسلام، ومن يقول إن الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان، فهذا ليس محله".
بعض نقاط القوة للتيار الأقل تشدداً
وتشير هذه الوقائع إلى وجود فجوة وصراع داخلي بين التيار المتشدد المحيط بزعيم الحركة الملا هيبة الله أخوند زاده، وبين تيار مقابل، يتطلع نحو تبني سياسات أقل تشدداً، إرضاء للشعب وإتاحة للتواصل مع العالم. وجلّ وجوه التيار الثاني، هم من أعضاء المكتب السياسي لـ"طالبان" وشبكة حقاني، بالإضافة إلى وزير الدفاع (الملا يعقوب)، ولكن المشكلة أن هؤلاء ليست لهم القوة مقابل كلمة زعيم الحركة.
وهذا الوضع أشارت إليه الأكاديمية الأفغانية شهلا فريد، موضحة لـ"العربي الجديد"، أن "المشكلة الرئيسية تكمن في أن جزءاً من قيادة الحركة الذين كانوا منشغلين بالقتال، يرون اليوم أنهم قاتلوا من أجل هذه الأيديولوجية الخاصة، بالتالي لا بد من فرضها مهما كانت النتائج والحسابات". ولفتت فريد إلى أن "هذه الشريحة داخل الحركة لا يهمها العالم ولا أي حسابات داخلية أخرى".
من جهته، اعتبر المحلل السياسي محمد فهيم كهودامني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "التصدع كبير بين قياديي طالبان، فهناك خلافات بين من يحكم في كابول وبين من هم في قندهار، وهي مرجع القرارات وحيث يعيش زعيم الحركة". وفسّر كهودامني أن "من يوجدون في كابول لهم رؤية خاصة لحكم البلاد، بينما الجالسون في قندهار يرون غير ذلك، كما يمكننا القول إن هناك فجوة بين جيلي الشباب والشيوخ". وبرأيه، فإن "الشباب، خصوصاً من الذين عاشوا في المدن، يرون أنه ينبغي أن تحكم البلاد بصورة تتماشى مع طبيعة العالم، بينما يرى الشيوخ أنه يجب التشبث بأيديولوجية الحركة مهما كان الثمن".
ورأى كهودامني أن الخلافات "إذا ما استمرت، فإنها يمكن أن تتحول إلى مواجهات مسلحة وانشقاقات، أو على أقل التقدير قد تدفع إلى انضمام قادة ميدانيين داخل الحركة إلى جماعات متطرفة مثل "داعش" و"القاعدة"، خصوصاً إذا ما رضخ قياديو الحركة إلى مطالب الجيل الشاب، وفتحت أبواب المدارس والجامعات والعمل للنساء والفتيات".
لكن المحلل السياسي محمد تواب، أكد أنه "في ظلّ هذا القدر من الاستياء في أوساط قيادات طالبان، خصوصاً البارزين منهم مثل سراج الدين حقاني الذي يمسك في يده قوة كبيرة في جنوب وشرق أفغانستان، والملا محمد يعقوب نجل الملا عمر، لا يمكن لزعيم الحركة أن يستمر في سياساته الحالية، لا سيما أن هناك من قيادات الحركة من قالوا علناً إنه لا يجب السمع والطاعة لأمير لا يدرك مطالب الشعب".
وذكّر تواب في حديث لـ"العربي الجديد"، بما قاله على سبيل المثال نائب وزير الخارجية في حكومة "طالبان"، ورئيس المكتب السياسي سابقاً، شير محمد عباسي ستانكزاي، خلال اجتماع في كابول عقد أخيراً، من أنه "يجب ألا يسمع ويطاع أي أمير لا يطيع حكم الله ولا يسمح بمطالب الناس الشرعية".
وختم تواب بقوله إنه "في وسط هذا الكم من الانتقادات من قبل قياديي الحركة من الصف الأول والاستياء الذي عمّ صف القياديين، لا أظن أن زعيم الحركة ومن التف حوله باستطاعتهم المقاومة"، متوقعاً أن زعيم الحركة "سيستمع إليهم، وسنشهد تغييرات قريباً مرتبطة بعدد من القضايا مثل قضية تعليم البنات وعمل النساء، وهي أكثر القضايا التي تشغل بال الأفغان".