أزمة مالية "مثلثة الأضلاع" تنذر واشنطن بهزّات محلية وخارجية

06 مايو 2023
تمرّ واشنطن بأزمة مالية مثلثة الأضلاع (Getty)
+ الخط -

تمرّ واشنطن بأزمة مالية مثلثة الأضلاع، عناصرها ليست طارئة عليها، عرفتها في السابق على نحو متفرق، وتجاوزتها، لكن الجديد هذه المرة أنها تواجهها مجتمعة  في آن واحد، وعليها الخروج منها أو على الأقل من بعضها في فترة قصيرة، قبل أن تستفحل تداعياتها، وبالتالي تتفاقم كلفتها المالية والاقتصادية والسياسية – الانتخابية.

المحاولات جارية لتجاوز الأزمة المالية، لكن الاحتمالات في معظمها غير واعدة في المدى القريب، وحتى المحتمل تجاوزه منها مهدّد بالتجدّد، لأنّ الحلول كانت وباقية مؤقتة، وبالتالي مفتوحة على التفريخ من جديد.

في الماضي، وبالتحديد خلال العقود الأربعة الماضية، وجدت واشنطن نفسها أمام موجة عاتية من جنون التضخم وارتفاع سعر الفائدة، بقيت تتدحرج أكثر من عشر سنوات، ثم شهدت أزمة مصارف طاحنة تواصلت تداعياتها أكثر من عقد هي الأخرى.

وبين هذه وتلك، كان على الإدارات المتعاقبة التعاطي مع مشكلة رفع سقف المديونية العامة لسدّ العجز في الموازنة السنوية، والذي أدّى الخلاف حوله في الكونغرس إلى وقف العمل أحياناً في أكثر مؤسسات الدولة الفيدرالية لعدم توفر السيولة. المشترك بين الأزمات الثلاث أنّ المعالجات كانت دائما سياسية - آنية، ما أدّى إلى تكرارها بعد إهمال العمل بدروسها.

الآن، تتجدد هذه التحديات معاً لتثير مخاوف جديّة من عواقبها، لو استعصت على الحل. بعضها، مثل الدَّين العام الذي بلغ 31.4 تريليون دولار، يستدعي المسارعة في معالجته قبل يونيو/ حزيران المقبل، بعد حوالي 3 أسابيع، وإلا وجدت الدولة نفسها من دون سيولة تحتاجها لتسديد نفقاتها من رواتب ودفع فواتير العقود والمشاريع، وخاصة فوائد الديون المترتبة على الخزينة والمقررة في الموازنة.

المعالجة بيد الكونغرس، المقرِّر الأول والأخير في قضايا المال والموازنات من نفقات وإنفاق. أما العقبة ففي مجلس النواب، وبالذات في مجموعة من حوالي 20 نائباً من الجمهوريين المتشددين (بعضهم لا يعترف برئاسة بايدن)، الذين يتحكمون بالأغلبية الجمهورية 222 – مقابل 213 ديمقراطياً، إذ يشترط هؤلاء خفض الإنفاق في موازنة بايدن من خلال شطب بعض برامجه، مقابل موافقتهم على رفع سيف الدِّين. ويرفض البيت الأبيض الربط بين الاثنين رفضاً باتاً باعتباره عملية ابتزاز سياسي، لكن الوقت ضاغط وعدم التزحزح يؤدي إلى عجز أميركا عن الوفاء بالتزاماتها، وبما يوازي إعلان إفلاسها لأول مرة في تاريخها.

ولا تقوى واشنطن على تحمل هذه الفضيحة التي لا تقل عن "كارثة اقتصادية" أميركية ودولية، بحسب الخبراء، والتي من عواقبها هبوط التصنيف الائتماني لأميركا، وتدهور حاد في أسواق الأسهم وارتفاع جنوني لأسعار الفائدة، وبالتالي انكماش كبير في حركة الاستثمارات، ما يقود إلى ركود محتوم وارتفاع البطالة وما يحمله ذلك من ارتدادات على الدولار والتجارة الدولية والاقتصادات العالمية، لكن الفريق الجمهوري المتشدد لا يتوقف عند هذه المحاذير ولا يبدو في وارد تهيّب الموقف، حتى ولو وصلت الأمور إلى حافة إعلان الإفلاس، فخصومته مع بايدن لها الأولوية.

ويلتقي الرئيس جو بايدن، الثلاثاء المقبل، بقيادتي الحزبين في مجلسي الشيوخ والنواب للبحث في كيفية الوصول إلى صيغة تعفي أميركا من بلوغ هذه النقطة. وتقول السوابق إنّ المساومة ولعبة العض على الأصابع ستمتدّ حتى آخر لحظة لإنضاج تسوية إجبارية من حيث المبدأ، وربما امتدت اللعبة إلى ما بعد مطلع يونيو/ حزيران مع ما تنطوي عليه من مجازفة.

وعليه، فإنّ التسوية تتطلب تنازلات لا يبدو أنّ البيت الأبيض قادر على الإفلات منها، ولو بصيغة تحفظ ماء الوجه، لضمان موافقة مجلس النواب على رفع سقف المديونية، وإلا فهناك أزمة من العيار غير المسبوق، أعربت قيادات اقتصادية ومالية دولية عن خشيتها من حدوثها أثناء اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد في واشنطن خلال إبريل/ نيسان الماضي، ومن بينهم رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، فضلاً عن المخاوف التي أبدتها أخيراً، وفي أكثر من مناسبة، وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين.

ويتزامن مع هذا الصداع، الذي تحكمه الحسابات السياسية أكثر من الأرقام الاقتصادية، تنامي شبح أزمة مصرفية كبيرة. وحتى الآن، عجزت أو انهارت 3 بنوك من الحجم المتوسط، تبلغ موجوداتهم نحو 200 مليار دولار أو أكثر بقليل.

ووفق آخر الإحصاءات، هناك ما بين 183 و186 من البنوك بهذا الوزن "مهددة" بالفشل أو الانهيار. ومن الأسباب ارتفاع أسعار الفائدة وضآلة حجم التأمين على الودائع. وفي التفسيرات المالية الرسمية، أنّ ذلك يعود إلى "سوء الإدارة ورخاوة الإشراف والرقابة من جانب الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) على عمليات المصارف".

وفي قراءات الخبراء أنّ العلة تكمن في "ضعف الضوابط" المفروضة على نشاطات المصارف، والمعروف أنّ من أسباب أزمة 2008 كان شبه الانفلات من الضوابط. في بدايات إدارة أوباما، تصحح هذا الخلل، لتعود هذه القيود إلى التراجع في 2018، زمن إدارة ترامب، وبقيت هكذا حتى تفجرت أزمة البنوك الثلاثة أخيراً.

الفارق هذه المرة مع الماضي أنّ الودائع بقيت مكفولة، وأنّ التعويض جرى عن طريق القطاع المصرفي ذاته، حيث أقدم عدد من عمالقة البنوك الأميركية الأربعة على شراء البنوك التي انكشفت تحت ضغوط الخلل الذي كان يشوب عملياتها في الإقراض والتعويل على ودائع جهات محددة كانت من كبار زبائن البنك المعطوب، والتي سرعان ما انكشفت حساباتها عندما تضاءلت هذا الودائع التي كات تؤمن السيولة اللازمة، والتي تغطي على السلفات والتوظيفات البنكية طويلة الأمد.

الخلاصة أنّ سرعة عطب المصارف، لا سيما المتوسطة منها، ناجمة عن مزيج من الأسباب، على رأسها الالتفاف على الأنظمة والقيود أو السعي لدى الكونغرس لتخفيفها.

وكما اختصره أحد المعلّقين، الأمر كله يعود إلى جشع المصرفيين. الآن الودائع مضمونة بحدود 250 ألف دولار للحساب الواحد. وجرى تشديد القيود بعد الهزة الأخيرة، لكن خطر الاهتزاز لمثل هذا العدد من البنود أثار تساؤلات، إضافة إلى هز الثقة بالنظام المصرفي بالرغم من التطمينات والضمانات التي أكدها المصرف المركزي. 

وحتى تكتمل صورة المشهد المالي المضطرب، استمر مجلس الاحتياط الفيدرالي برفع معدلات الفائدة في اجتماعاته العشرة الأخيرة، والتي كان آخرها الأسبوع الماضي، وذلك بهدف محاربة التضخم عن طريق تبريد الوضع الاقتصادي، ما يرفع البطالة، ويخفض بالتالي الأجور التي تعتبر مفتاح الخلاص من التضخم.

آخر أرقام الوضع الاقتصادي، التي صدرت الأربعاء، تشير إلى أنّ محاولات المركزي لم تفلح حتى الآن في تحقيق المراد. والمتوقع الاستمرار في رفع سعر الفائدة وإلى أمد غير معروف.

في الثمانينيات، استمرت مثل هذه العملية سنوات إلى أن أدّت إلى ركود قضى على التضخم، والمشكلة في هذه العملية هي رفع سعر الفائدة الذي بدوره يفاقم كلفة الدَّين العام، أي الفوائد التي تدفعها الخزينة للمستثمرين في سنداتها، كما يساهم في رفع العجز في الموازنة. مسلسل مترابطة حلقاته صارت متضخمة، خاصة حلقة المديونية التي لا حلّ لها في المدى المنظور غير الاقتراض لسد عجز الموازنة المتوقع أن يتواصل لسنوات.