لم تمض 24 ساعة على تصريحات الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بشأن أزمة سد النهضة، والتي حملت تلويحاً بإمكانية استخدام الحلّ العسكري لتسوية النزاع مع أديس أبابا، أو إرغامها على القبول بالوساطات والحلول المقترحة، والتأكيد على عدم التنازل عن نقطة مياه واحدة من حصّة مصر المائية المقررة وفقاً للمعاهدات السابق إبرامها، حتى خرج السفير الإثيوبي في القاهرة، ماركوس تيكيلي، أمس الأربعاء، في مؤتمر صحافي ليؤكد أن بلاده متمسكة باستئناف التفاوض مع القاهرة والخرطوم بشأن ملف السد. وأشار السفير الإثيوبي إلى أنه سيتم استئناف التفاوض برعاية الاتحاد الأفريقي قريباً، مؤكداً أن بلاده ملتزمة بالتفاوض وفق الحلول السلمية. وقال تيكيلي: "نتفاوض برعاية الاتحاد الأفريقي، والمفاوضات ستستأنف قريباً، ونحاول الوصول إلى اتفاق مرضٍ لجميع الأطراف". وأضاف أنه "لم يتم التواصل مع إثيوبيا رسمياً بعد بشأن لجنة الوساطة الرباعية التي توافقت عليها مصر والسودان، وسمعنا عن اللجنة من الإعلام". لكن هذه التهدئة الكلامية الإثيوبية ترافقت مع أنباء عن إعلان إثيوبيا عن بدء عملية لقطع الغابات في محيط سد النهضة استعداداً للملء الثاني في يوليو/تموز المقبل، ما يعني أن لا بوادر لأي حلحلة أو تنازلات من قبل أديس أبابا.
طرح ورقة الحل العسكري ربما يجبر واشنطن على التحرك
ويأتي التصعيد الكلامي المصري بعد ست سنوات من المفاوضات غير الجادة، منذ إبرام اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015 والالتفافات الإثيوبية المتوالية، التي سهّلت لأديس أبابا التقدم في بناء السد في المواعيد المحددة، وملئه للمرة الأولى في الصيف الماضي، والاقتراب من ملئه للمرة الثانية في يوليو المقبل.
ولا يمكن الفصل بين تلويح السيسي أول من أمس، خلال زيارته قناة السويس، بالعمل العسكري في ما خصّ أزمة السد، وبهذه النبرة المتحدية غير المسبوقة، وبين جملة من المستجدات اللافتة على الساحتين الدولية والإقليمية إزاء القضية، أخذاً في الاعتبار أن الرئيس المصري كان يتعمد مراراً طمأنة الجانب الإثيوبي، نافياً نيّة مصر اللجوء للحلول العسكرية. وحصل ذلك حتى في أسوأ مراحل التفاوض السابقة، والتي كان من بينها على سبيل المثال لا الحصر، رفض إثيوبيا والسودان التوقيع على صيغة الاتفاق النهائي التي أثمرت عنها مفاوضات واشنطن في مارس 2020، ورفض إثيوبيا التوصل إلى اتفاق نهائي قبل الملء الأول، ثم إعلانها الملء الأول بعد لجوء مصر إلى مجلس الأمن. كذلك استمرت نبرة الطمأنة المصرية، على الرغم من تراجع رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد لاحقاً عن تعهداته أمام اجتماعات القمم الأفريقية المصغرة التي عقدت في النصف الثاني من العام الماضي، ومطالبة بلاده في ما بعد بمحاصصة جديدة لمياه النيل، ثم تعطيل المفاوضات مرة أخرى من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وحتى الآن.
ويمكن إجمال المستجدات التي دفعت السيسي لإرسال هذه التهديدات الغاضبة، في ثلاث نقاط رئيسية، عكسها حديث مصادر دبلوماسية وسياسية مصرية، وأخرى غربية في القاهرة لـ"العربي الجديد" خلال الساعات الماضية، واتفقت على أن تهديدات السيسي ليست موجهة لإثيوبيا فقط، بل تهدف على المستوى ذاته، إلى إزعاج القوى الكبرى من احتمالية الحرب وآثارها على مصالحها في المنطقة، وإرغامها على التدخل لتحريك المياه الراكدة.
تفريغ المطالبات المصرية
وتتعلق النقطة الأولى بتأكد السيسي من وجود محاولات عربية لتفريغ مطالبات مصر من مضمونها، وتنتهي حتماً بتنفيذ كلّ طلبات الإثيوبيين، ومن ثم الإضرار بمصر استراتيجياً واقتصادياً. وتتمثل هذه المحاولات في المقام الأول، في الجهود الإماراتية التي تبذل حالياً لإقناع مصر والسودان بحلول فنية غير جذرية تُمّكن إثيوبيا في كل الأحوال من الملء الثاني للسد، وتحقق حالة مؤقتة من عدم الإضرار بالسودان ومصر، تنتهي بنهاية فترة الفيضان الحالية، مع عدم التوصل إلى اتفاق نهائي وملزم لجميع الأطراف يضع قيوداً على التصرفات الإثيوبية المستقبلية.
خلاف السيسي مع قادة الإمارات في هذا الملف، لا يزال كالجمر تحت الرماد، وكانت له مقدمات شتى على مدار العامين الماضيين اللذين شهدا شداً وجذباً وتوتراً مكتوماً بين القاهرة وأبوظبي على خلفيات سياسية واقتصادية عديدة. ومن أبرز هذه الخلفيات، الخلاف حول طريقة التعامل مع الملف الليبي الذي أصبح المصريون يرون أن المواقف الإماراتية ورطتهم فيه لسنوات بدون طائل، واتجاه المستثمرين الإماراتيين للانسحاب من عدد من المشروعات وسحب الاستثمارات التي كانوا قد وعدوا بها سابقاً، بحجة سوء الإدارة المصرية لها، بالإضافة إلى تقاعس الإمارات في مدّ يد العون لمصر في أزمة فيروس كورونا بالتباطؤ الواضح في إرسال اللقاحات. ويأتي ذلك بالإضافة إلى الحديث عن تعاون أبوظبي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، لتنفيذ مشروعات تنموية لوجستية ستؤثر سلباً على المقومات المصرية، وأهمها قناة السويس، وذلك كلّه على الرغم من القشرة التي تغلف هذا الملف من الاتصالات وتبادل عبارات المحبة والإعزاز بين السيسي وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد.
وتحاول الإمارات تجاوز حالة التوتر مع القاهرة، إعلامياً، بواسطة سياسة دعائية مكثفة عبر وسائل الإعلام المملوكة لها، لصالح السيسي، تروج لإنجازاته وتهاجم معارضيه، بصورة يمكن أن تكون أكثر تطرفاً من وسائل الإعلام المصرية المحلية ذاتها. لكن هذه السياسة، التي تبدّت في الاحتفالات المبالغ فيها في القنوات الإماراتية بانتهاء أزمة قناة السويس، تفشل في إخفاء التوجهات الحقيقية للإمارات.
وأعطى بيان وزارة الخارجية الإماراتية، أمس الأربعاء، نموذجاً لهذا الازدواج في التعاطي مع مصر. فبينما أفرد قسماً منه للتهنئة بإنهاء أزمة السفينة "إيفر غيفن" التي جنحت في قناة السويس، امتنعت أبوظبي عن إعلان دعمها لمصر والسودان في قضية سدّ النهضة، بل حاولت الظهور في صورة الوسيط المحايد، داعية إلى "استئناف الحوار الدبلوماسي البنّاء والمفاوضات المثمرة والالتزام بالقوانين الدولية، وصولاً إلى حلّ يلبي مصالح جميع الأطراف". وما زاد الموقف الإماراتي اختلافاً وسط المحيط العربي، أن الدول العربية الحليفة للسلطات في مصر، أصدرت بعد تصريحات السيسي، بيانات دعم لموقف القاهرة والخرطوم في سدّ النهضة، بما في ذلك السعودية التي سبق لها أن عرضت أداء دور الوساطة، حيث قالت إن "الأمن المائي للقاهرة والخرطوم جزء لا يتجزأ من الأمن العربي".
السفير الإثيوبي: متمسكون باستئناف التفاوض وبالحل السلمي
وفي هذا السياق، فإن التهديد بالعمل العسكري لن يؤدي فقط لإحراج حلفاء السيسي العرب، ومن بينهم الإمارات، واختبار جدّيتهم في مدّ يد العون لمصر، بل أيضاً من شأنه، بحسب رؤية السيسي، أن يخيف أبوظبي على مصالحها الاقتصادية في إثيوبيا، إلى جانب طرح احتمال الحلّ العسكري ليكون في خلفية أي تحركات إماراتية مقبلة للوساطة المنفردة.
الأخطار الغربية
أما المستجد الثاني، فيتمثل في الأخطار الغربية التي أصبحت أكيدة لدى السيسي جرّاء الفتور الأميركي الواضح والتلكؤ الأوروبي، إزاء الاستجابة لمقترح آلية الوساطة الرباعية لحلّ القضية (بمشاركة الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة). فالإدارة الأميركية الجديدة لم تحسم أمرها، وهي لا تزال تتلمس طريقها، وتربط الانخراط في الوساطة بموافقة جميع الأطراف، كما تبدو في تصرفاتها رغبة في إبقاء الوضع على ما هو عليه، واقتصار جهودها على منع تطور القضية إلى مواجهة عسكرية بين مصر وإثيوبيا. كما أن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لديهما مخاوف من تولد "حساسيات" مع الاتحاد الأفريقي بسبب اختلاف الاتجاهات الفنية بين بعض العواصم الأوروبية ومفوضية الاتحاد حول الأزمة، وفقاً لما سبق أن أبداه خبراء الاتحاد من آراء خلال الجلسات الأخيرة من المفاوضات نهاية العام الماضي قبل تعثرها.
وبحسب المصادر، فإن السيسي مقتنع بأن إدارة جو بايدن لن تمنح أفضلية لمصر مجاناً، خصوصاً في ظلّ الخلافات الجذرية بين الطرفين حول عدد من الملفات، على عكس إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب. وبالتالي فإن طرح ورقة الحلّ العسكري والتهديد به، بحسب المصادر، ربما يجبرها على التحرك خوفاً على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
والأمر نفسه يتعلق أيضاً بالدول الكبرى التي تتابع الموقف، ولها مصالح في كلّ من مصر وإثيوبيا، بل شاركت بعضها في إنشاء وتمويل السد، كالصين وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وكذلك روسيا التي تعتبر من الداعمين العسكريين للبلدين. وقد أصيبت مصر بخيبة أمل كبيرة من موقف معظم هذه الدول حتى الآن، خصوصاً عند لجوئها في الصيف الماضي إلى مجلس الأمن.
وأوضحت بعض المصادر أن اتصالات سرّية غير معلنة جرت بين موسكو وبكين والقاهرة بعد تصريحات السيسي بساعات معدودة، لاستكشاف مستجدات الموقف، علماً بأن الدولتين كانتا تؤيدان الموقف الإثيوبي وضد استصدار قرار من مجلس الأمن ضد أديس أبابا، لأسباب تتعلق بنزاعاتهما المائية الخاصة. كما سبق أن تعهدت الصين بمنح مصر قروضاً ومساعدات كبيرة لتحسين قدراتها المائية قبل كورونا، كمحاولة لتخفيف الأضرار المتوقعة من إنشاء السد.
تثبيت التعاون مع الخرطوم
المستجد الثالث في خلفية تصريحات السيسي، يتمثل في محاولة مصر بشتى الطرق تثبيت التعاون المستقر والهش في آن، مع السودان، والذي تستغله إثيوبيا لمحاولة استمالة الخرطوم إلى مواقفها وإظهار مصر وحيدة على طاولة التفاوض. وتعود هذه الهشاشة إلى وجود شخصيات ومجموعات في حكومة عبد الله حمدوك ووزارتي الخارجية والري في الخرطوم، يرون أن سدّ النهضة مشروع يحقق المصلحة السودانية، وأن المخاوف المصرية لا ينبغي أن تهم السودانيين.
اتصالات سرّية جرت بين موسكو وبكين والقاهرة بعد تصريحات السيسي، لاستكشاف مستجدات الموقف
وقبل ساعات فقط من تهديد السيسي، بدأت إثيوبيا، كما نشرت "العربي الجديد"، حلقة جديدة في مسلسل تلك المحاولات، عندما قدمت طرحاً جديداً في صورة اتفاق ثلاثي مؤقت، بامتداد فترة الملء الثاني إلى شهرين كحدّ أقصى، مع عدم اضطرار الدول الثلاث إلى عقد مفاوضات مطولة جديدة حول قواعد الملء والتشغيل قبل الملء الثاني، ومن ثم تأجيل المفاوضات الأساسية، إلى ما بعد هذه المرحلة من الملء.
وتدرك مصر جيداً أن هذا المقترح، وعلى الرغم من طرحه في صورة اتفاق ثلاثي، لا يخاطب إلا مخاوف السودانيين، لأنه يراعي الجانب الفني الخاص بالسدود السودانية، ولا ينظر إلى مشكلة تراجع حصّة المياه النهائية الواصلة إلى السد العالي. ويأتي ذلك فضلاً عن إعلان إثيوبيا أخيراً، للمرة الأولى، أنها منحت السودان، منفرداً، البيانات الخاصة بتأمين سد النهضة وخريطة التصرفات، لكنها في المقابل لم تعط مصر أي بيانات تتعلق بفترة الملء أو كيفية التشغيل. وحدث هذا التطور بعد وقت قليل من زيارة السيسي للخرطوم في 6 مارس الماضي، والتي شهدت إعلانه التوافق مع قيادات المجلس السيادي الانتقالي، حمدوك، على ضرورة التوصل إلى اتفاق عادل وشامل قبل الملء الثاني للسد، ورفض أي خطوات فردية تصعيدية واللجوء إلى آلية الرباعية الدولية المقترحة. وكانت "العربي الجديد" نشرت في 17 مارس الماضي معلومات عن صدور تعليمات من الاستخبارات العامة المصرية إلى وسائل الإعلام بتصعيد الحديث عن "ضرورة الحسم بالقوة"، طالما استمرت أديس أبابا على موقفها. وجاء ذلك بعدما كان السيسي قد رفض في يوليو/تموز الماضي، التلويح بتهديد الإثيوبيين وبالعمل العسكري.